مع غياب شارل ديغول يغيب وجه من أبرز الوجوه في العالم. وهو، على صفائه ووقاره وكلاسيكيته، من أغرب الوجوه. وقد يكون أغربها.
في هذه الكلمة السريعة لا أتوخى درساً من ديغول، سيرته شخصيته ومآتيه، ان هي الا شتيت من فكر تجيء عفو الخطر تعني ولا تبني، تعلن ولا تبرهن.
من المحال ان يحصر هذا المارد من قمقم، فيجعل بحجم فرنسا، وهو بحجم العالم، كله.
ديغول قمة من أعلى قمم التاريخ الفرنسي، انه واحدة من القمم التي ترفع من فوقها جان دارك، لويس الرابع عشر، نابليون، كليمنصو، وأمثالهم.
وهو من فصيلة أولئك الفرنسيين العتاق الذين بلغوا بالعلم والفن والفكر والشعر والدين والجندية والسياسة الى أعلى ذرواتها، وهم في وقار الأنبياء، وصرامة الرسل، وحنان الملائكة.
بين رجال الحرب كان أول من لفت الى أهمية تحرك الآليات الذي عليه بنيت الحرب العالمية الأخيرة.
كان أكبر الرافضين في العهد الحديث. رفض الخضوع للهزيمة فوقفت، على رفضه، المقاومة التي كانت لها الغلبة في آخر المطاف.
ورفض، في ما يرفض، الإنصياع لهواه، فقدم للمحاكمة مكرها، أصدقاء له من كبار العسكريين والمدنيين، ان هم قتلوا عاشت فرنسا.
ورفض ان تحيا الإمبراطورية الفرنسية مريضة فقرب لأجلها.
كان صاحب جمهورية كأفلاطون (جمهورية أفلاطون) والفارابي (المدينة الفاضل). ولكنه أخرجها من الكتاب الى الحياة. ولا يزال الناس يعيشون في ظل الجمهورية الخامسة سعداء.
انطلق فيها من أن النظام للناس لا الناس للنظام، ونظر في نفعهم وخيرهم، أولاً. ثم فصل لهم ثوباً على قدهم كما بدا له في النصف الثاني من القرن العشرين.
انها لمحاولة فذة لإحياء النظام الديمقراطي البرلماني في جمهورية فاعلاة لا منفعلة.
كان ديغول القائد – الحاكم – الكاتب – الخطيب في آن معاً.
وكان كقائد صاحب خطبة (التحرك الآلي)، وكحاكم صاحب نظام (الجمهورية الخامسة)، وككاتب صاحب أسلوب (السهل الممتنع) وكخطيب صاحب طريقة (النفس الطويل).
قد يكون، وحده هكذا في هذا العصر... وفي بعض عصور الخوالي.
ارتفع بالسياسة الى حد أن، البادرة منه صارت تعني ما يعنيه الموقف الحكومي.
وكان للكلمة تنطلق من فمه قوة القانون. وتلميحه قوة الوعد.
قليلون هم الذين تجرأوا، مثله، أن يمشوا في غير تيارات شعوبهم. فكان مع العرب، ومع الألمان، ومع استقلال المغرب العربي، وضد الإمبراطورية الفرنسية... ووقف أبداً الى جانب رأيه ولم يعبأ.
كان يرى العالم بحجمه الطبيعي، ويرى أوروبا بحجمها الطبيعي، فحاول أن يوحد أوروبا لتصبح شيئاً في العالم، وكانت السوق المشتركة.
وفي انتظار ذلك كان لا بد من أن يبوىء فرنسا مركزاً عالمياً ففعل، واذا هي في الكبار الكبار.
ظل يعمل حتى يومه الأخير. وقد رأى الجزء الأول من مذكراته قبل أن يطفئ السراج.
لم يتتبع العالم أخبار رجل غادر الحكم باللهفة ذاتها التي كان يتتبع أخباره في أثناء الحكم كما تتبع أخبار ديغول.
حتى انه كان يشهر الأماكن التي مر بها بعد اعتزاله.
الفراغ الذي تركه ديغول وراءه فراغ عالمي – انساني – لا إقليمي – فرنسي.