في ما يلي نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ إدوار حنين، باسم مجلس النواب، في حفلة تأبين الرئيس جمال عبد الناصر، التي أقيمت في قصر الأونيسكو بحضور فخامة رئيس الجمهورية وكبار الرسميين.
أما لبنان فانه فقد بعبد الناصر لبنانياً كبيراً.
(من كلام لفخامة الرئيس سليمان فرنجية في مجلس الوزراء الأول).
لبنان الذي قال فيه قائل:
هو لبنان ما أردناه ألا
         مثلما كان منذ كان الأوالي
يصل الرشق بالمغارب كالشمس
         ويهدي الأجيال بالأجيال
واللبناني الذي قيل فيه:
         شراعاً لدجلة في كم يم
ندل على ناطحات السحاب
         ونقرع عالمها بالعزم
وكيف انطلقنا تقدمنا الأرز
         ينقل في كل أرض قدم
لئن قيل هيض جناح لنا
         فما نحن بالدافعين الشهم
ومن مد يوماً جناحاً الى الشمس
         أحرقه ما بها من ضرم
فلبنان هذا، لبنان الواحد، يتفجر أسى عليك لكأن غابة من أرز قد تقصفت وشوامخ راسخات قد زلزل زلزالها.
فيا رحمك الله افلم يكن من آخر كلماتك:
أن لبنان عزيز جداً علي وعفو الله عمن يشككون".
سيدي صاحب الفخامة
ايها الحفل الكريم
مات عبد الناصر لأنه لم يكن من الممكن الإستغناء عنه، لقد كان لا يرفض تضحية ولا يتهرب من واجب. فعمل وجهد حتى قتل نفسه.
عظيم من عظماء الفراعنة، بل أعظمهم، قد فرغ اليوم مكانه:
عظيم من عظاء العرب قد غاب وجهه الى الأبد
عظيم من عظماء العصر طوته الأيام كالغروب ولم يعد
لقد كان عبد الناصر عظيمًا نعرف ذلك من ظله.. من ظله على صدر الدنيا وهامة الدهر.
نعرف ذلك من أنه جسد شعبه في كل قيمه التي طالما طمست وفي كل توقه الذي طالما لجم،
من أنه عرف وقال ان قوة الشعب هي، وحدها التي تخلق القيادات، فمثل تلك القوة بما يشبه السحر. وعرف بالتالي:
ان الشعب المصري يخفي قوة نفسية هائلة، ولا ينقصه على ما قال تشرشل سوى واحد هو المعبود.. فكان معبوده. ولم يعد عجباً أن يضيف هذا الشعب الأبي على أهرامه هرماً جديداً بحجم قوة من أرفع نجاد الأرض.
كان عظيماً لأنه قدر بما يعني هذه الرقعة في الدنيا أن يربط تفكير العالم بشخصه، فكان كل ما حصل في هذه الرقعة اما تجاوباً مع سياسته أو رداً عليها.
وكانت سياسته سياسة دهاء لا الهاء، تتحدى ولا تتعدى، تعصف ولا تنسف.
لأنه كان حراً في بوادره يوم عظماء العالم مقيدون ولأنه كان يلتقي العظماء "حلفاء لا أولياء".
كان عبد الناصر عظيماً لأن الإنكسارات والإنتصارات ما صابه منها وما أصاب، كلنت تتشابه لديه:
"لله أورشليم عند جلالها
         ما أشبه المنصور بالمكسور"
لأنه عرف:
ان اغلب الناس من تغلب على هواه فتولى الحكم فقيراً وخرج منه فقيراً، وكان أحق الحاكمين تمثلاً بابي بكر الصديق الذي قال لابنته عندما ادركه الموت:
انظري، يا عائشة، ما زاد في ابي بكر، منذ ولي الخلافة، فرديه الى المسلمين.
لأنه عرف ان حساب الحب ان نحب بلا حساب. فأحب شعبه بالكثير كما أحبه شعبه بالكثير.
وعرف ان للعدالة سيفاً بلا غمد فوضع القوة في خدمة العدالة، وقرن بها الرحمة، وحاذر ديناً.
وأدرك ان مكان الإنسان في الحياة ليس بمقدار ما يريد وما يستطيع. فعمل وادهش.
وعرف أن للحقيقة كما للدين عدوين: المبالغة في الزيادة، والمبالغة في النقصان. فصدق الحقيقة والناس.
وعرف ان يمشي في الطريق الصعب. فكانت سنوات حكمه عمر الزهد في حياة الشعب،
وان كان قد زاد، مع السد العالي، رغيفاً على كل معجن.
وعرف أن الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب أبداً، فسخاُ بنفسه.
وكان عظيماً لأنه كان يعرف ان يقول الكلمة الواجبة في المكان الواجب:
"لو مات جمال كلكم جمال"،
قال للجماهير الواجمة بعد الإعتداء عليه في الإسكندرية.
ولأنه قدر أن يمد صوته، بحكم إيمانه بوسائل الاعلام الحديثة،الى أطراف الدنيا، فأنشأ له قاعدة شعبية في كل بلد عربي وكأنها الحزب الواحد.
وكان عبد الناصر عظيماً،
لأن ارتجاجاً أصاب كل بيت لفقده ومزقت الصدور عليه، وضاقت الأنفاس. فاندفعت الجماهير تنبع في المدائن من الأزقة والزواريب، تملأ الشوارع والساحات، تكبر، تولول ولا تصدق ان باعث الأمل في الحياة قد مات.
... ثم راحت تقرع في قرانا العاليات، أجراس الكنائس، مدندنة حزينة.
عبد الناصر لقد كنت القائد العظيم فمضيت الى ربك وأنت المحبوب الأعظم.
وكنت الملهم في حياتك فإذا أنت الملهم بعد مماتك.
لقد قيل: انقضت أيام الأعياد التي كانت تدوي لعبد الناصر فيها زأرة حتى آخر الأرض، وأقصى أبعاد الضمائر.
وقيل: لقد انقضت تلك الهوسة التي كانت ترتفع الى النجوم على توثبات القلوب وزمجرات العزائم.
قلنا: بل تعود باذن الله، على صوت الحق المجلجل، على ارادة الغلبة، على الهام السماء، وعلى يد من كان يمينه في النضال فأصبح، اليوم، كلا لكل. كان الله في عونه وسدد خطاه.
سيدي صاحب الفخامة،
انه لحمل ثقيل الإسم الذي صارت له شهرة واسعة مبكرة. فأي عجب أن يكون عبد الناصر قد وقع تحت وطأة هذا الحسل.
وانها لصدفة نادرة ان يلي الحكم صاحب شهرة طوال ثماني عشرة سنة موصولة النفس، ملأ فيها الدنيا وأشغل الناس. فأي عجب أن يكون الفراغ، بفقده كبيراً.
ثم اليس أن القوم، قومه، ظلوا، مئات السنين، ينتظرون مجيئه فذهلوا من أن يروه يذهب في ساعة.. فزاد الفراغ الكبير..
ولكن:
أتغور تحت الأرض زوبعة
         نارية قدسية اللهب
فلتمض الشعوب العربية، من فوق القبور أبداً الى غاياتها.
تلك هي إرادة عبد الناصر، وارادة الحياة.
وانه لينظر الآن من عليائه بحرقة، الى كل مروع ليقول له:
كن مثل قلب الأرض لو لم يفتحوا به الجرح فوق الجرح ما كان أخصبا
الا أمش
وفي
طريق الجهاد الحقيقي
لتسبق أمالنا في الطريق
ونجني الأشعة قبل الشروق
الا أمش
في ذمة الله رجل العظماء!!
فنم اليوم، من نومك الطويل.. ان قلبك لمستيقظ.
المجلس النيابي اللبناني يشارك، مشاركة حميمة، في ذكرى الأربعين لعبد الناصر راجياً أن يكون تعالى قد قرن له فاتحة السعادة بخاتمة الشهادة.
أنّا لله وأنّا اليه راجعون.