نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ ادوار حنين، باسم مجلس النواب، في الحفل التأبيني الذي أقيم في الذكرى الاربعين لوفاة المغفور له الأستاذ رشيد بيضون، مؤسس العاملية، والنائب والوزير السابق
فتح الفتوح تعالى ان يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخطب
(أو تمام)
كنت يافعاً وكان له ملك في قريتي فعلقته عيناي.
ويوم التقيته، أول مرة، بعد أن شببت، شعرت أن فرحة تنبع من الحجارة، تنهمر من الأشجار، تملأ الساح.
لم أشعر أن هذه الفرحة تستطيع ان تهرب ككل هناء.
على أنه، بعد أربعين عاماً، يذهب هو ليبقى حلو اللقاء. فما أطيبه !!
رشيد بيضون، مهابة، وجلال.
كأن واحداً من الاباطرة العتاق يخطر في الأرض عندما يخطر.
أنه في بنية القلاع، شديد القوى متينها، وثيق الأركان، ثبت كتمثال على شاهق.
شعره الأغبر واحد من سجلات الدهور.
ويا طربوشه الأحمر !!
رشيد بيضون صامد القلب، هادىء العصب "كالجبل لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف".
صلب في العقيدة، رقيق في البؤس.
متمهل في الحركة، سريع الى العمل.
نفعه بالشيء انتفاع الناس به.
أفضل كلام عليه أن ندع أعماله تتكلم.
صورة الرجل، هنا، فعله.
... وكان أجره الا يقبل أجراً.
ثم تتبعت سيره فإذا رشيد بيضون يعطي الدليل، كالمختارين من عظماء الأرض، على أن المقررات الأخيرة لا تتخذ في الجهمة والعزمة والغنفراد انما هي تتكون تلقاء اذا تبدأ الطريق بعمل صغير بالغ في التواضع فيجد المرء نفسه مأخوذاً بزحمة من الأعمال الصغيرة البسيطة المماثلة التي يتواضح لونها شيئاً بعد شيء حتى اذا برزت معالم الطريق كلها، وتواضحت بدورها، ويكون كل شيء قد تقرر.
وليس بعيداً أن يكون رشيد بيضون قد بدأ حياته بالقليل، القليل من نفسه وماله، لعلمه أن:
"لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه".
ولم يلبث أن ألحق الكثير بقليله حتى تكاملت التضحية وتكامل العطاء، فعلم الجاهل، ودرب الغافل، وأرشد المحتار، وذاد عن البائس، وهوّن على المعذب، ورفع رأس المغمور.
فما أندى أنامله
وأبسط كفه!!
كل ذلك بدفع ما كان في صدره من إيمان:
لقد آمن بأن:
"لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل".
فانكب يعمل.
وآمن بأن:
"فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه".
فتخير الخير. وراح يقلع الشر من صدره.
وآمن بأن:
"من كفارات الذنوب العظام اغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب".
وأن:
"قيمة كل امرء ما يحسنه".
فاتقن صناعة الاغاثة.
وآمن بأن المال خادم امين وحاكم ظالم.
وبأن:
"ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك".
فأخذ ينفق ماله في العاملية، والمهنية، والمستوصفات، والمساجد حتى راحت تنبت الصروح، كالدجة، في كل مكان.
رشيد بيضون قرأ في كتابه:
"المرء مخبوء تحت لسانه".
فأخذ يتنخل كلامه.
وقرأ:
"المسؤول حر حتى يعد".
فقتل الوعد بالعطاء.
وقرأ في كتابه:
"جانبوا الكذب فانه يجانب الإيمان".
فصان لسانه.
وقرأ:
لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب".
فكان هناء الناس هناءه.
وقرأ:
" أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان".
فشدهم اليه بالمعروف.
وقرأ في كتابه:
"الإعجاب يمنع الإزدياد".
فازداد حدبا وقل عجباً.
وقرأ
"آلة الرياسة سعة الصدر".
فعاف التبرم والغضب.
وقرأ
"الغالب بالشر مغلوب".
فغلب في الإنتخابات النيابية مرتين اثنتين فيما كان يقودها وهو وزير.
وهكذا. حتى لكأن عليا، سلام الله عليه، كان يعيش في قلبه.
قال لاروش فوكو:
"من يحيا بدون جنون ليس حكيماص قدر ما يظن".
فرشيد بيضون جن بالإنسان. ذلك الكائن الذي هو على صورة الله ومثاله، والذي، مع ذلك ، "تنتنه عرقة وتميته شرقة". ابن آدم هذا يجب أن يتمتع، في يقين رشيد بيضون، بعيش رخي، بتربية واعية، بعناية سخية، بمهنة وعمل يدفعان عنه التعطل والعوز، بمسجد يلتقي فيه الله، وبلقاءات تعيد ثقة الإنسان بالإنسان، وترفع رأسه، فاندفع هازئاً بالموانع،ة يذللها في الطريق، يتعاظم عليها، يحطم عنفوانها، باذلاً من نفسه بدون ما حساب كما، هو، اعطي، من ربه، بدون ما حساب.
فحقق قول القائل:
"الذي يعطي من نفسه بسخاء في كل ما يعمل، في كل ما به يشتقى، وفي كل ما يحب، انه لمخلوق عجب. اذ السخاء في البذل كالعبقرية كلاهما اعجوبة الله".
(رومان رولان)
وبعد،
فما بقيت العاملية بقيت المحبة في لبنان. واذ ما انهارت، لا سمح الله، أو جانب منها قد انهار، فان كبيراً من عناوين المحبة قد فقد، ويتم الإنسان.
وتتبعت رشيد بيضون في المجلسين:
ففي المجلس النيابي كان يصغي قدر ما يتكلم، وكان يتكلم لمصغين، فإذا كلامه الحد في النقاش.
تعقل، صدق، اتزان، وإخلاص.
ما ذكر اسمه مرة، الا مقرونا باحترام.
ولا وطأ صحن المجلس مرة الا وطأته الرصانة.
لقد كان تطلعاً الى بعيدين:
لبنان الغد
ولبنان المغترب
فكان بابا على المستقبل وبابا على العالم.
وفي مجلس الوزراء فإن همس أخرس الزاعقين، ورنت اليه الاسماع.
يقدح من ذهنه كأنه يقد من جسمه، فترتسم على وجهه معاني الكلمات.
كان، في حكمه، مع الإنسان، دائماً الإنسان، وحده الإنسان، فكانت قدمه على رؤوس مصالحه ومصالح أقرانه.
وهنا لم أعرف يدا كانت فيلا عوني، عند تقرير الضمانات الإجتماعية، أرأف بي من يده، ولا أصدق، ولا أقوى في المساندة.
أما في المناسبات الوطنية والإجتماعية والثقافية فقد كانت أبداً، على فمه، الكلمة الشجاعة، والكلمة البلسم، والكلمة المنار كقائد، وطبيب، ومرشد من طراز فريد.
وكان رشيد بيضون، في لبنانيته، كتاباً برأسه.
لقد قال لي يوماً:
"انا، يا أخي، من طينة خام. تعلقي بلبنان كما تعلق نباته بترابه. لا شيء يقوى على اقتلاعي منه، أموت ان اقتلعت، لن أستطيع ان اعيش، ساعة، شروشي في الهواء. فما دمت في الحياة سأظل متمسكاً بلبنان تمسكي بالعاملية.. وهو تمسك فوق كل تصور"..
أيها الحفل الكريم
هذه حكاية رشيد بيضون كما عرفتها
اليس كل إنسان، على الأرض، حكاية؟!
اليس أن حكايته أطيب الحكايات؟!
الا في ضمير اللبنانيين كبير من كبار
نفعنا الله بفعلك
وأجزل لنا العزاء
انا لله وأنا اليه راجعون!!