ها نحن في طريقنا إلى اسوان
طلعنا من الفندق في الأقصر قبل طلوع الشمس
ثم عادت فطلعت علينا الشمس من مكان المغيب
من بطون السهول ومن فراشها قبل أن تغتسل.
وراحت تمتد اممنا الطريق في اتجاه الشروق
وراحت السهول على عادتها تسير في اتجاه القطار المعاكس
خضرة من الجانبين ونيل
وقد كان اتجاهنا نحو منابعه
ما إن تنتهي عينكم من أرض حتى تعلق أرضًا ثانية كأنها هي هي
الأرض التي علقتها في الأول
مربعات أو مستطيلات تموج في الأخضر
فإما أن يكون قمحًا وبرسيمًا وفولاً وإما أن يكون ترمسًا او قصب سكر
ويندر أن يتكون الخضرة غير ذلك.
وحيث لا خضرة على الأرض خضرة في السماء
غابات من النخيل
نخيل أهيف متشامخ فخور
لا يخشى على نفسه السواعق التي تعودت رؤوس امثاله في لبنان فلا تترك مكانها إلا أثرًا في نار
استقامة جذوع النخيل في مصر احسن ما رأيت من استقامة
قد يكون الفضل في ذلك إلى النيل أيضًا
أرض خصبة ونيل يعيد إليها الخصب كل حين
وليس للنخيل هنا مهمة جهمة الوجه التي له في لبنان حيث جذعه على الغالب بلون حجارة الخربة او الطاحون المهجورة أو الحائط يعلوه مزراب منقور تهرب منه المياه فيكمح
لم نر أثرًا لزراعة الكتان في هذا القطاع من القطر المصري على أنها الزراعة الغالبة في طريقنا إلى طنطة والمحلة الكبرى
أما القرى فلا تزال مزروعة إما عن شمال الخط الحديدي وإما عن يمينه
ولم نر قرية واحدة على كثرة ما تنبهنا للامر تبدأ في اليسار وتتكامل في اليمين أو العكس
كأن الخط الحديدي عالم مسحور يجب ألا تجتازه قدم.
وفي اماكن كثيرة كانت رقعة الأرض الخضراء تموت ضيقة عند حد الرمال
إذ الصحرا ما زالت تحاول أن تبتلع الخضرة زاحفة إلى ضفاف النيل لتبل جوفها المسعور
وفي أماكن أخرى تنام الصحراء على ذراع النيل
ماء ورمال
وما مشروع السد العالي في أسوان على ستة كيلومترات شمالي السد القائم سوى محاولة جديدة لقهر الرمال واليباس ولدفع الصحراء أبعد فأبعد من ضفاف النيل
وتقوم الزراعة هنا على زنود الناس مثلها مثل الزراعة حيثما كان من القطر المصري
فلو صنعت الزراعة وألقيت الآلة بين أيدي الفلاحين لاتسعت رقعة الخصب ثم أعطي للإنسان بما يتوفر له من وقت ان يتنبه لإنسانيته وأن يعمل على تجويدها.
رفيق المزارع في عمله حيوان هزيل مثله جاموس أبو حمار
أما الجمل فنادر
آلة وقعت عليها العين هنا وقد لمحنا في البعيد من السهول آلة صفراء
أول آلة وقعت عليها العين هنا
لعلها آلة فلاحة أو حصاد
ولم تقع عيننا على حصان بمصر فيما عدا الأحصنة التي شاهدناها في سباق هليوبوليس
وقد يكون للحصان عالم فيها لم يصدف ان قاربناه
اما النساء فما برحن يردن النيل بالقرب على رؤوسهن افواجًا أفواجًا
يمسك صغارهن بتنانيرهن السوداء لعلها جلابيات النساء
وتستخرج مياه النيل للري بواسطة النواعير حينًا يديرها جاموس أو حمار وهي نادرة، أو بواسطة الدواليب المجوفة يديرها الفلاح بيديه كما تدار عندنا دواليبا لغزل القديمة
أو بواسطة الولاء مربوطة في طرف عمود يقابلها في الطرف الآخر حجر ثقيل جعل العمود الأفقي على عمود مزروع في الأرض كالميزان
يشد الفلاح بالدلو ليغرف بالنيل ثم يتخلى عنه فيرتفع ملآنًا، يصب خارج النيل في قناة تنقل المياه إلى المكان الذي أعد لها من الزرع.
وتتابع الجزر كثيرة في مجرى النيل من الصغير الصغير حتى الكبير منها.
وطأنا أرض أسوان وقد وطئت الشمس قرص السماء فدخلناها مع الظهر في ىن واحد وقد طوينا نحوًا من 250 كيلومترًا
أسوان أكثر إشراقًا من الأقصر
شوارعها أرحب وبناؤها أشمخ ونباتها اكثر
نيلها أقل سمرة وإنسانها أشد سمر
إن هي سمرة سوداء
لم تكن أسوان مدينة الآلهة والملوك على نحو ما كانت الأقصر عهد الفراعنة الأولين واللاحقين
وليس فيس أسوان معبد أللهم إلا ذلك المعبد المتهدم في إحدى جزر الفيلة قبالة اسوان إلى الجنوب الذي وقفه الفراعنة على عبادة الغله قنوم إله الكتاركت. ثم عدل فيه البطالسة ثم أقام فيها الرومان معبدًا على شرف الإسكندر الكبير.
ليس في أسوان معبد وغنما في أسوان شيدت جميع المعابد الفرعوينة او شيد الجميل منها.
ففي أسوان مقالع الغرانيت الأحمر على وجه الخصوص.
الصخور التي في النيل والتي تشبه الفيلة والتي باسم هذا الشبه سميت جزر أسوان جزر الفيلة. والإسم محدث على الغالب.
لأن الأهلين هناك يلفظونه بالفرنسية ولا سعربونه.
كلها من الغرانيت الاحمر خلعت فيها المياه والشموس لون الصخور التي عندنا على الشطآن باستثناء الحشائش البحرية التي تغلب على صخور شطآننا من الحد إلى الحد الآخر في لبنان.
الصخور التي على ضفتي النيل والتي أقيمت من فوقها المنازل والحدائق والطرقات كلها من الغرانيت الأحمر. ومع ذلك تجد البيوت في أسوان مثلها مثل البيوت في كل مكان آخر من القطر مرصوفة بالآجر أو التوب كأن لا مقالع لأفخم حجر فيها.
كان أول ما أراد لنا عزت الترجمان الخجول أن نراه مقلع الغرانيت من حيث هبطت حجارة المعابد في الأقصر واقتلعت المسلات الضخام.
في مقلع أسوان الاكبر مسلة ما تزال (لا تزال) في مكانها ممسكة بالأرض من جهة واحدة. وجهاتها الثلاث الأخرى قد أفلتت من الصخر.
طول هذه المسلة 32 مترًا
أخت إحدى المسلات التي ما برحت منتصبة بمعبد الكرنك في الاقصر وأخت المسلة التي في ساحة الفاندوم في فرنسا وواحدة قالقة في روما.
أما الأخريات في الأقصر فدونها حجمًا وارتفاعًا.
لماذا صرف النظر عن اقتلاعها ونقلها فتركت في سريرها تستريح
فمن قائل إن شعرًا اعترى جذعها وهو شعر ظاهر وشعرًا آخر اعترى رأسها وهو ظاهر أيضًا.
ومن قائل إن الأسرة الفرعونية التي كلفت باقتطاع ونقل وزرع هذه المسلات كانت قد دالت دولتها ولما تقتطع المسلة.
ومن قائل مثلنا، يعلم االله، الشائع أن هذه المسلات وغيرها من قواعد وحجارة العواميد كانت تقتطع وتشغل وتنقش بالصوان وهو حجر أصلب من حجر الغرانيت على ما يؤكد العارفون.
والظاهر أيضًا أن المشرفين على قطع هذه المسلات كانوا قبل أن يباشروا القطع وهو عمل شاق يسبرون غور الصخر الذي منه كانت تقتطع المسلات بأن يثقبوا ثقوبًا عميقة في الصخر عمق سماكة المسلة. كل مترين ثقبًا ليتبينوا صحة الحجر سماكته سلامته من جيوب الرمل أو الحجر الغريب تناسب جبلته...
ثم يباشرون القطع وتبدو هذه الثقوب اليوم كالتنانير (التنور) التي يخبز علينا عندنا أي في بعض الجبال.
والظاهر أيضًا أن المشرفين على القطع كانوا يثقبون ثقوبًا صغيرة بحجم الكف المطبقة في جنبات المسلة، يحشونها بالخشب الأكثر قابلية على امتصاص الماء، فينتفخ الخشب، ويصدّع الصخر فيبعدون عن مسلتهم التصدع ويبرزون المسلة.
اما النقل فقد كان بواسطة ترعة تربط بين المقلع والنيل.
وأما كيف؟ وكيف كانت تجر المسلة؟ وكيف كانت تركب الترعة؟ وتركب النيل؟ وتصل إلى الأقصر؟ وتستخرج من النيل وتجر إلى المعبد ثم ترفع هناك؟ أما كيف كان يجري كل ذلك فهذا يرجع إلى اختصاص العلماء الذين ذهبوا في كل هذا كلّ مذهب.
ثم تابعنا طريقنا إلى السد في أصوان.
على طريق السد، وهي طريق عالية في التلال، لون شاحب... بعيد ولكنه لون قريب من بعض ألوان لبنان.
البيوت في القريتين الصغيرتين اللتين اجتزناهما إلى السد بيوت مستقلة. فبدت القرية على غير عادتها، هنا، كانها كومة تراب فُصّلت فيها بيوت.
وهي مشرقة، تبرّجت وجوه بعضها بالكلس الأبيض.
وبعضها مرفوع على أدراج كانها تريد أن تعلو الأرض، وأن تجفو الصحراء.
لون هاتينا لقريتين كلون المنصورية في جبال الشوف بين بحمدون وبتاتر، باستثناء لون الخضار.
وتطلع إلينا من بين الخمائل بيوت حلوة، في بقعة منخفضة، مورقة، خضراء، فيها رائحة من شتورة في لبنان. لو شع فوق بيت من بيوتها شيء من القرميد الاحمر.
إنها حرم السد.
على كتفها العالي خط مستقيم هائل قد لا يقل عن الثلاثة كيلومترات، من الحجر الأبيض القريب إلى لون المسك، تسانده إلى الجنوب، أذرعة عمالقة أسطوريين، معكوفة كالقوس، متلاصقة أو تكاد، تباعد بينها ثقوب. وقد استبعدت القناطر خشية أن ترزح القناطر. تتدفق من هذه الثقوب قناطر من الزبد.
كذلك الذي تبصقه فراشات الطواحين عندنا في لبنان. على ألف مرة أشد وأقوى وألف مرة أغزر.
من هذه الثقوب يتفجر النيل، كل هذا الني الذي يملأ الصحراء، فيطلع الخضرة والحياة، وينبت القرى والمدائن، كل هذا النيل الذي يتسع أحيانًا سعة كيلومتر كامل.
من هذه الثقوب يتفلت النيل بعد أن يكون قد لجم وراء السد في بحيرة تبعد عمقًا عن السد نحوًا من ثلاثمائة وخمسين كيلومترًا في اتجاه منابعه.
فوق هذا السد الهائل طريق سيارات رحبة. وطئناها خاشعين خائفين. فكأنها كانت تهتز تحت أقدامنا. تهتز لصوت الأسد الملجوم، يزأر من تحتنا، وقد مدّ عنقه ليفلت من القفص.
قد لا يكون للماء صوت مثل هذا الصوت في غير شلالات نياغارا.
أين لين المياه ووقع الماء على الما يصعّد صخب الحديد يلقى فوقه حديد، أو يقارع بعضه بعضًا.
من تحت هذا السد دنيا من البياض تتقلب تعج وتتآكل.
ومن وراء هذا السد شراع يميل به الدلال على شحوب الغروب.
... ونصعد في سلّم على إفريز السد حيث جعلت شرفة تطل على المياه المتدافعة منه نغسل وجوهنا رشاش يتناثر من الهاوية، فيطولنا فوقها على عشرات الأمتار.
يا لنداء الهاوية!!
يا لنداء المياه تصطخب في الهاوية، تولول، تزأر، تجأر، تعول، تزلغط، تنتحب، تهدر، تصرخ، ثم تتلاطم، تصطفق، تتناطح، تتلاكم، تعتلج، تدور، تتعقّد، تتسرع،... وتمشي.
على شمال السد مدينة أوروبية صغيرة للمهندسين والفنيين الآخرين من الفرنسيين والأوروبيين الذين يواصلون الأعمال في شتى ميادين التعمير.
ثم كان الغروب
الدنيا في أسوان غير الدنيا التي اعتادتها عيوننا.
كأن للشمس لونًا غير لونها المعتاد.
وكأن النور في أسوان مبطّن بما هو ليس من النور... بخيوط من المخمل الذي لا نعرفه بعد...
ومن أين جاءت أسوان بهذه التدرجات تنتاب اللون اللاذوردي الواحد، وسلالمه المائة، التي تمتد من”الموف”الوردي إلى الموف الرمادي مرورًا بمائة لون ولون، تفرشها أمام عينيك وكأنها لا تفرش أمامك شيئًا.
الدنيا في أسوان مسحورة حقًا.
ليت أنه أعطي لي أن أرى فيها الشروق.
اللون في أسوان كالرقص يُرى ويُحس ويسحر ولا ينقل بالكلام.
حتى إني أخشى أن يُعجز المصورين الذين عجزوا إلى الآن أن ينقلوا لون الجمرة الحمراء، الذي هو أقل مما في أسوان تعقدًا وتدرجًا وتنوعًا وغنى.
تركت شيئًا في نفسي عند السد في أسوان ساعة أدرت له ظهري ولا بد من أن أعود لألقاه.
في أسوان حديقتان جميلتان الحديقة العمومية حديقة البلدية التي ما زال اسمها حديقة فريال وهي قائمة غربي أوتيل الكانتاركت كثيفة الأشجار متنوعة السزهور تعلو بها عن يمين النيل نحوًا من خمسين مترًا أكداس من الصخور الغرانيتية المحدبة كانها أكياس من الليمون.
قد يكون هذا المكان في كل ما شهدنا من مجرى النيل أرفع مكانًا تكبر فيه عليه.
والحديقة الثانية حديقة أوتيل كاتاركت التي يفصل بينها وبين النيل هذا الفندق الضخم المترامي الجانبين وهو على شاكلة دير من أديرة الجبل في لبنان، الفسيح المدواة، الذي يزاور في الضفة المقابلة استراحة أنشأها آغا خان لنفسه ومر بها على ما قيل لنا هناك جميع نسائه الجميلات باستثناء ريتا هيوارت التي تبدو أنها اعتذرت عن المجيء.
يبقى لنا بعض الكلام على الجزر النيلية.
جزر النيلة أو الجزر النيلية سلسلة من الجزر قبالة أسوان للجنوب أكبرها ثلاث وأبرزها اثنتان.
واحدة تقوم عليها حديقة اللورد كيتشنر
والثانية جعل في رأسها الشمالي مقياس النيل وفي رأسها الغربي معبد الإله قانوم ومتحف آثار صغير وفي وسط هذه الجزيرة قرية صغيرة يتكلم أهلها النوبية والبشارية وشيئًا من العربية.
وإن أدهش ما في هذه الجزر أن لا أسماء لها غير ما تعود الاهلون أن يطلقوا عليها من أسماء محدثة كجزر الأليفنتين ويلفظونها هكذا وليس فيهم من يعربها أو جزر أسوان.
ومما زاد في دهشتي أن هذا الاكتفاء بالتسمية يناقض ما ألفناه في لبنان من الإسراف في إطلاق التسميات.
فالقرية الصغيرة عندنا مجزأة إلى نواح وأحياء كالمحطة والبالوع عندنا في كفرشيما. والحي إلى حارات كحارة الفرن وحارة العين وحارة المجادين والحارة إلى أماكن تتسمى باسم البارز فيها.
ومشاع القرية او املاك الاهلين فيها موزعة إلى أقسام أيضًا كالسقي والرويس والمراح والسباحية عندنا في كفرشيما.
ولكل ملك في هذه الأقسام اسم يلتصق به أسماء لأشخاص كتلة الريحان وضهر المغارة وكرم القسيس وجورة حمدان.
حتى ان بعض اللبنانيين راح إلى أبعد من هذا فراح يطلق على بعض الأشجار العزيزة عليه أسماء كأسماء الأشخاص سواء سواء.
فيسمي عريشته السوداء صبيع العبيد وتفاحته الحلوة ام الخدود وتينته اللزيزة عنبرة وما إلى غير ذلك.
وقد أسرفت في أسوان بالسؤال عن أسماء هذه الجزر ولكل واحدة منها شخصية محددة حلوة تفرض أن يكون لها إسمًا فلم ألق من أحد جوابًا غير جزر الأليفنتين أو جزر أسوان.
بورك لك يا لبنان بخيال أبنائك الخلاق بنزعة التجسيد التي هي نزعة كل واحد منهم.
بحبهم لأرضهم الذي يحملهم على أن يوزعوا أرضهم إلى وحدات ولكل وحدة منها اسم علم تعرف به كما يعرف بأسمائهم مشاهير الأرض.
أما في حديقة النبات حديقة اللورد كيتشنر فمجموعة أزهار وزهور هي ولا شك من أوسع المجموعات واكثرها تنوعًا يغلب اللون الإفريقي على أشجارها وزهورها وبعض ما فيها يحمل اللون الآسيوي إنما هو القليل
من الطبيعي أن لا ينصرف اهتمامي للإحاطة بأسماء كل ما وقعت عله العين من انواع الشجر والزهور إن لهذا مجالاً في الموسوعات والقواميس ويقتضي له كتاب مفرد.
ويكفي أن أشير مثلاً إلى بعض أنواع النخيل وهو يمتد من النخيل العادي، نخيل البلح إلى نخيل اللاتانيا الذي يزرع عندنا في لبنان كالورد والحبق والمنتور.
النخيل الرخامي وهو كعواميد الرخام الأبيض ولونه أبيض وناعم اللمس مثله.
فنخيل الزيت وهو كالنخيل العادي مظهرًا ولمسًا. ثماره فوق حجم البلح معرجة كالبطاطا يستنفد زيتًا
نخيل جوز الهند وهو شاهق ذو جرائد ورقع عريض.
نخيل السكر كنخيل البلح
نخيل الأرنكا كنخيل السكر
ونخيل الكانسيا ونخيل كامور دبس ونخيل نسيكر أو ذيل الجمل وهو قصير ورقه كالصنوبرز
ونخيل الخيزران وهو على نوعين:
خيزران العصي وخيزران القش
ونخيل باناما وهو كنخيل الخيزران تصنع من اوراقه البرانيط المشهورة باسمه
جذعه لين على ورقة عريضة
ونخيل الدوم وهو كنخيل البلح وله ثمار تؤكل
إلى جانب انواع النخيل هذه طائفة ضخمة من الأشجار الإفريقية التي لم تقع لنا عليها عين في السابق كشجر المطاط وشجرة الاكاجو على نوعيها السنغالي والإفريقي وشجرة الإنبوس وهي أقرب شيء إلى شجرة الليمون عندنا او شجيرة الفار.
وشجرة التيم وهي قريبة من شجرة الصفصاف
وشجرة الفيكس وهي من فصيلة الجميز وبحجمها
وشجرة الدلادستا وهي أقرب ما يكون إلى السنديانة
وشجرة سيراكاما الهندي بحجم شجرة اللوز الكبيرة ولها زهور نارية اللون.
وشجرة النيكع التي لا يتسرب الماء إلى داخل خشبها
وشجرة الجاكوفروت التي تبلغ زنة ثمارها العشرة كيلو أحيانًا وهي بحجم شجرة الليمون يوسف أفندي.
وما إلى غير ذلك الكثير من القليل الأقل الذي ذكرت.
ويزيد طول هذه الجزيرة على النصف كيلومتر ولا يقل عرضها عن نصف طولها.
واحدة ثانية من جزائر النيلة هي الجزيرة التي تقوم عليها قرية كبيرة مأهولة وهذه أيضًا لا إسم لها ولا إسم للقرية التي تقوم عليها إن هي واحدة من جزر النيلة الكائنة غربي أسوان.
عندما تضيق المساحات يرجع الناس إلى حدود العادة في ساحاتهم وشوارعهم.
ساحات هذه القرية ضيقة ومثلها الشوارع على ما في المدن العتيقة في لبنان وفي بعض قراه
الأزقة في هذه القرية كالأزقة في طرابلس القديمة التي غضب عليها أبو علي او في صيدا القديمة. وهي متعرجة متقصفة لا تكاد أن تنسد حتى تنفتح أمامك من جديد.
وقد اجتزنا هذه الجزيرة عرضًا من الشمال إلى الجنوب.
الرجال ولا شك خارج القرية والجزيرة معًا.
إذ لا مجال للعمل في هذه الجزيرة ولا مجال للزراعة بصورة خاصة.
الارض فيها إما مأهولة وإما ملك الله والمولى.
والقليل منها ملك الصبية يسرحون ويمرحون.فلم تقع عيننا على وجه رجل.
أما النساء والاولاد فقد كانوا كلهم في الطريق وعلى الأبواب وعلى كوى كالشبابيك وكلهم يريدون بخشيشًا.
النساء سافرات الوجوه يهتفن من مطارحن والصبية حفاة شبه عراة يلحقون بنا يدهم ممدودة على وجوههم كل معاني الالتماس والاستعطاف والاسترحام والهزء واللامبالاة والارتقاب والتحسب والاستعداد الدائم لكلمة شكر او مسبة أو حجر يقذفونك به من الوراء.
أما الصوت فواحد”بخشيش، بخشيش"
فإن حسن لديك أن تبخشش واحدًا، تعاظمت موجتهم حواليك ثم ساروا بك في موكب لا ينفك عنك إلا ساعة تغادر المكان بالزورق الشراعي الذي كان قد قدم بك إلى الجزيرة وأنزلك في ناحية منها ليلقاك في الناحية المعاكسة الاخرى.
هنا حضرتني كلمة لموريس باريس في كتابه رحلة في بلدان المشرق حيث جاء ما معناه”كيفما اتجهت في هذا الشرق تصم أذنك كلمة بخشيش. كل واحد تلقاه يطالبك ببخشيش إلا في لبنان. في مدنه وقراه القريبة والبعيدة. في لبنان يطالبونك بمدارس."
أعطنا مدارس الشيوخ والشبان والنساء والاولاد كلهم يريدون مدارس كأن في سماء لبنان من الحد إلى الحد ترتسم كلمة الرسول”أعطني المعرفة فأحيا". وكان شعار هذا البلد الصغير مدارس مدارس. أعطنا مدارس فنحيا.
الناس في هذه الجزيرة سود.
هنا إفريقيا السوداء.
لغتهم النوبية والبشارية وبعضهم يتكلم العربي. غير أنها ليست اللغة الغالبة.
وعندما همست لبعضنا أن يصد موجة البخشيشيين عنه بقوله لهم نحن عرب مش أجانب ولا سواح
انهالت من أفواه كثيرة على رأس العرب شتائم فهمنا منها التي صيغة بقالب عربي. وقد تكون هذه الشتائم كل ما يجمع بين أبناء هذه الجزيرة والعروبة من جامع.
ثم عدنا بعد تطواف في النيل على مركب شراعي”حمامة بيضاء بفرد جناح”كما قال شوقي في زجليته النيل نجاشي إلى أسوان.
ورحنا نتجول في ساحاتها وحدائقها وشوارعها. حتى ضمنا حانوت سيدة اوروبية تبيع تذكارات أسوان.
وفيما نحن نتبصر بأشياء هذا الحانوت دخل علينا اثنان من الفتيان السمر السود في آخر عمر الدراسة فتقدما من بحياء ولطف يسألان:
- حضرة توفيق الحكيم.
- لا أنا رجل من لبنان
- ولكنك توفيق الحكيم
- بل رجل من لبنان
- وكيف تكون توفيق الحكيم.
فألفتهم إلى أني لم أستغرب سؤالهم لأن السؤال نفسه طرح علي في شوارع القاهرة والأقصر مؤكدًا بلطف إلى أني رجل من لبنان.
وقد شاء أحد الرفاق أن يمزح ويداعب فقال لهم إنه توفيق حكيم لبنان. معتبرًا أن المشهد سينتهي عند هذا الحد.
ثم اعتذر الشابان وخرجا من الحانوت لينضما إلى رفاق لهما في عرض الطريق.
وما إن خرجنا بدورنا من الحانوت حتى سمعت من حناجر الشباب هتافًا مرددًا ثلاثًا”يحيا لبنان".