إدوار حنين يكتب انطباعاته عن نياغارا ونيويورك
نيويورك الجادة التي فيها محور الأرض
الاميركيون : لم أر أطفالاً عمالقة كهؤلاء الأطفال
الشلال في مفهوم اللبنانيينشيء من شلال حمانا او شلال جزين
فصار طبيعيًا كلما ذكرت على مسامعهم الشلالات ان يعودوا بالتصور إلى ما يعرفون منها فيزيدون عليها او ينقصون
حسب ما يكون قد وصل إلى قلمهم من ضخامة الشلال أو هزاله.
وكان طبيعيًا لدى ذكر شلالات نياغارا أن يرد في خلدي أن المطابقة بين شلال حمانا وبينه تصير في حدود الملايين
تبارك الخالق سبحانه
بحيرة خسف نفصها
شلالات نياغارا لا تنبع من ساقية ولا تنبع من نهر
إنما هي تنحدر من بحر
تطونت على مجرى نهر لا تحد اطرافها العيون
هذه البحيرة المترامية الأطراف خفّ نصفها فانحط وبقي نصفها الآخر معلقًا في جدار من الماء
بحيث ان البحيرة الواحدة بحيرتان
واحدة تعلو الثانية عشرات الأمتار
ومياه البحيرتين على تواصل دائم عبر شلالات التي هي شلالات نياغارا
كان يصور منديلاً أبيض سعة اللانهاية طرف منه عند أقدام الارز والآخر في وادي قنوبين.
منديل من مدة واحدة وندبة واحدة
يتماوج ولا ينقطع
تنفخ فيه الريح من ظهر القضيب فيترنح لها عند قبور البطاركة
ملايين الأباريق
لم يحل لي ان أتصور في ساعة شرود واسترخاء إن جمعت على نداء عربيد أباريق الأرض جميعًا
ثم اعطي الأمر بان يسفح ماء الأباريق دفعة واحدة من علو شاهق
يحلو لي أن أتصور أي تسكاب من مياه الارب يكون هذا التسكاب
ملايين الأباريق منتفخة من ماء حتى انها ترشح تناطح بطونها بطون بعضها الآخر
تدفق ماءها من أفكاء وزلال معًا
ملايين الأباريق تصب عن كف سخية صب مزاريب الجبل في ليلة من كانون شديدة المطرة كثيفة التهطال
ملايين الأباريق تزغرد على الدفق وتشهق
هذه الملايين من الأباريق تذوب ماء سويًا في آن واحد من كتف شير متشاوف شامخ فوقهما وتحتهما وبين الماء والماء ماء
فلا ينقص معينها ولا يشح ولا يجف
إن هي غلا في انتصار دائم ودفق متواصل وسكاب على تسكاب
كيفما حاولت ان أتصور هذه الشلالات أو حملت على تصورها
فإنه يظل في اعتقادي ان هذه الشلالات بين الأشياء الواقعية جميعًا قد تكون وحدها التي الواقع فيها يفوق التصور
فتأمل
جداران من خضرة وبلور
شلالات نياغارا جدار هائل من البلور الأبيض في "بافلو" يقابله جدار هائل من الخضار في كندا
يباعد بينهما النهر المتكون من هذه الشلالات
جدارا لبلور هذا مستقيم فيم مكان ومستدير فيىخر
فهو تارة كحد السكين وتارة كنضوة الخيل
أما التسكاب فواحد كأن شيئًا من كوثر يصب عن كف الله سبحانه
وهو ينصب عن سعة ككرم الله وعن علو شاهق من حيث هو الله
ضرب الماء في الماء
زارة الأسود في مأسدة الملايين
هدرة الأمواج على غير نغم وإيقاع
غنها ضرب في الصخور في الرمال
اما هنا فضرب الماء في الماء
هدير عميق عميق
كأن ملايين الحناجر البشرية تقيم التسابيح في مغاور متقابلة بعيدة القيمان
وقع الماء في الماء كوقع الكف على الكف يحدث نغمًا مغمغًا ولا يحدث قرقعة فاجرة.
في هدرة نياغارا شيء إنساني يهدهد ولا يقلق
يهمهم ولا يصرع
لم يعرف لغير الجماد أقوى منه صوتًا ولا أرخم منه صوتًا
النهر يحرق لها البخور
وكان النهر عرف بطرب على هدير الشلالات فيحرق لها البخور تسبيحًا وتمجيدًا في رشاش كثيف.
هذا الرشاش البهيالمتصاعد أبدًا من تحت الشلالات البالغ أحيانًا قمة انسكابها يلفها بمنديله الأبيض فيحجب عن العين بعضها الأسفل
حتى انك لا تستطيع ان ترى استدارة هذه الشلالات
إلا إذا وقفت على رقابها.
مطر دائم
تحمل الأيام الرشاش على جناحها، حتى يعود فينهمر رذاذًا على الناس
والناس يحسبون أنهم في مطر
فيتقونه بالمعاطف والمظلات.
إذا حسب هذا الرذاذ مطرًا كان جانب من الأرض في جوار الشلالات تحت مطر دائم.
بين بلدين
على الحدود الأميركية جزيرة جميلة الهندام موردة خضراء توصل بينها وبين اليابسة جسور.
إنها جزيرة على نهر.
من وراء الجزيرة بحيرة أوسع منها بسطة أرض.
من امام الجزيرة هاوية في الفضاء
عن يمينها الشلالات المستقيمة
وعن يسارها نضوة الخيل
فيكون ظهر شلالات نياغارا ورقابها في الأرض الأميركية
أما صدرها المنسكب على كونه في الأرض الأميركية فلا يرى على جباله إلا من الأرض الكندية التي تقابل الشلالات.
يد الإنسان لم تتدخل في شؤون الشلالات.
ولا تستطيع أن تفعل.
بيد ان يد إنسان عملت على ان توفر للإنسان مراكز الرؤية فهيأت له كل ما من شانه أن يبرز مفاتن الشلالات وكل ما من شأنه أن يسهل اكتناه هذه المفاتن.
وفي هذا السبيل قد مدت الخطوطو الحديدية على أكتاف الشلالات ليعرف راكب القطار (وهو من نوع خاص) في أي إطار هي من الكون وفي أي حضن من الطبيعة، وكيف تنجمع المياه وتسيل وتنصب.
وانشئت في هذا السبيل الأبراج والأدراج والجسور لكي يصعد الناظر فيراها من فوق.
وحيط فيراها من أسفل.
ويعبر الجسر (أو بعض الجسر) لينظر إليها من الجوانب.
ثم وضعت في خدمة الناظر، إلى جانب القطارات والعربات والمصاعد والزوارق والبواخر الصغيرة التي تقل الناس حتى أقدام الشلالات فيرتدون إذاك ملابس خاصة كالمعاطف المشمعة تقيهم الرشاش الماطر والابتلال بمائه.
وبين هذا وذاك مدت لهم الحدائق وجنائن الزهور أبهج ما على الأرض.
ومهدت لهم السبل أمتع ما على الأرض بأفاريزها المقدودة في الصخور،
وشيدت لهم الفنادق والدور والمطاعم والمقاعي
وضربت لهم النوافير بالمئات لتقريب الأبعاد.
تعب واندهاش
في حياتي لم أر كثرة سيارات بالمقدار الذي رأيت في دروب نياغارا.
وفي حياتي لم أر زحمة الناس بالمقدار ذاته.
واغرب ما في الناس انك ترى على وجوههم التعب والاندهاش في آن معًا.
فلا التعب يمنع الاندهاش
ولا الاندهاش يقعد الناس عن التعب.
وقد حالنا حال جميع من رأينا.
تبارك الله وتبارك غنسانه.
وبعد هل أستطيع ان أقول الآن
هنا فرغت قارورة الحزن وحطم الله قارورته؟!
نيويورك عاصمة العالم
إذا حاز أن تكون روما أو باريس عاصمة العالم الروحية
فلا يجوز إلا أن تكون نيويورك عاصمة العالم الحياتية.
في نيويورك أرفع بناء على الأرض
أكبر تجمع من الناس (بعد طوكيو) أرحب مكان للتلاقي (كل دقيقة تطير طيارة منها او تحط طيارة ناهيك عن القطر والسيارات والبواخر)،
أروع مجال للأعمال.
أضخم خزائن للمال
وأوسع متسع للتجوال.
قال لي شوقي الشويري ، شاب لبناني من أميون، يأخذ العلم في واشنطن وهو من ألمع طلابنا فيها – انتدبته وزارة الخارجية لمرافقتنا:
" كلما خطرت في الجادة الخامسة، وأطبقت على هذه الناطحات، وخالطت الناس فيها، ودست أنفي في مخازنها، شبه لي أنني امشي في وسط الدنيا ، وأنني هنا، فوق محور الأرض".
لا أدري إذا كان يستطيع الإنسان أن يصور ما تثيره في نفسه نيويورك تصويرًا صادقًا لما في داخله وصدقًا لما يرى أحسن من هذا التصوير.
كأن هذه الناطحات تدل العالم اجمع برفع أيديها من بعيد، إلى أن هنا حيثما أقف من الأرض محور الأرض.
وكأن هذه الناطحات التي تفني لنا في النظر إلى السماء تقول لنا، بمد الأصابع، هنا كبد السماء.
ولا يزيح كبد السماء عن هنا فيراطًا واحدًا.
هل تريدني ان أقول لك بعد هذا كيف يطوق الهدسون المدينة بذراعيه
كيف يعصرها بيده
فتروح تقلع في الفضاء
حتى لا حرمة للفضاء.
هل تريدني أن أقول لك كيف قفز النيويوركي نهر الهيبتون قفزة واحدة فقطب خاصرته البعدين قطبة واحدة في جسر ظل إلى أن أنشئ جسر غولدن غايت في سان فرنسيسكو فريد عصره.
هل تريدني ان أقول لك كيف تخلصت نيويورك من نيويورك فخرجت إلى السهول والتلال تزرع عليها لبيوت والدارات حتى إذا ما خيم الليل وجد الإنسان نفسه في مكان أهدأ مكان وأروع مكان.
هل تريدني ان أقول لك كيف أن هذه المدينة التي كل ما فيها قد جعل فيها لابتلاع الإنسان لا تبتلع الإنسان. وكيف يكون الافتراض في ان يقال إن الناس في نيويورك يطأون بعضهم أقدام بعضهم الىخر ويسيرون على سرعة بعضهم الآخر. فلا تمهل ولا توقف ولا مجال للتفكر ولا رحمة.
قال لي صديق يعيش في ضواحي نيويورك غنه كلما قدم إلى نيويورك اكتشف نيويورك جديدة.
فإذا كان القول صحيحًا فما عساي فاعل.
إذ انا صورت لك مدينة ستضحي غيرها بعد أيام.
لذلك أجدني مكتفيًا بتصوير جو ورد قرية. ولا أحسبني قادرًا على أكثر من ذلك.
صوت أميركا
بعد هذا التطواف السريع في الولايات المتحدة الاميركية طلب إلي أن أسجل كلمة في "صوت أميركا" أضمنها بعض انطباعات من هذه الرحلة. فقلت:
"كان أول ما وطانا في القارة الأميركية أرض سان فرنسيسكو في كاليفورنيا فإذا بنا في ولاية مساحة أرضها مساحة إنكلترا لمرتين ومساحة مدينتها الكبرى لوس انجلوس مساحة لبنان مرتين.
فادهشتنا العظمة.
ثم توالت علينا العظائم.
فإذا على أرض الولايات المتحدة الأميركية أرفع بناء في العالم وأطول جسر وأكبر محطة وأضخم شلالين (واحد من صنع الطبيعة وآخر من صنع الإنسان) وأكبر معامل وأوفر إنتاج.
رأينا لزامًا علينا ان نواجه أشياء هذه البلاد بعين جديدة وشبه جديد.
غير ان معلوماتنا عن هذه البلاد وأهلها كانت مستمدة من قراءات قديمة:
مغامرة ... لا مغامرة
كنا قرأنا أن اميركا بلاد المغامرة والمجاذفة والمخاطرة.
فغذا بنا نجد أن تنظيم السير فيها تنظيم محكم بغية المحافظة على أرواح السوافين والناس.
وان المصاعد خاضعة لفحص دوري ومراقبة شديدة دفعًا للخطر.
وان الأنظمة الصحية – الوقائية فيها أسلم الانظمة، فلا مجازفة.
وأن الضمانات الاجتماعية التي أنشئت فيها الناس أضمن الضمانات.
فلا مغامرة.
وأن المشاريع التي تنفذ بين ليل ونهار تكون قد استغرقت سنين طويلة من الدرس بغية تخفيف نسبة المخاطر فيها.
سرعة سلامة
وكنا قد قرأنا أ نالسرعة سرعة السواقين والمشاة الأميركيين الذين يكاد بعضهم يطأ البعض الآخر.
فإذا بنا نجد ان لسرعة السواقين حدًا أدنى دفعًا للازدحام وحدًا أعلى دفعًا للحوادث.
وأن للمشاة حرمة ونظامًا وحقوقًا تمكنهم من الانتفاع في سيرهم العادي دون عرقلة توجب التباطؤ او التوقف.
بين الإيتيكت والبراتيك
وكنا قد قرانا أن الشعب الأميركي شعب بوهمي لا مبال، بيته على ظهره، يلبس ويأكل وينام كيفما تيسر له ذلك.
فلا عبرة للباس ولا قيمة للأكل، وليس ما يحبب البيت إليه.
فإذا بنا نجد أن الشعب الأميركي شعب صريح كريم واضح،
ضبط الإتيكيت ليحل محلها البراتيك
ولكنه لا يتنازل عن بفتيكه السمين وقميصه النظيف وبيته الدافئ الذي فيه تلفزيون وبراد والمطابخ الكهربائية وفرش مريح ونجد أن ذلك الذي رأيناه في شوارع باريس وروما ولندن من إباحية جهيرة لا نرى مثله في شوارع سان فرنسيسكو ولوس انجلوس وواشنطن ونيويورك.
وكان الشاب الأميركي يأبى أن يخاطر حبيبته في شارع عام.
الأطفال العمالقة
كنا قد قرانا غن الأميركيين أطفال كبار حتى إن جان كوكتو في سبيل البرهنة على ذلك قال:
"كيف لايكونون اطفالاً وغنهم يعيشون على شرب الحليب".
فإذا بنا نجد ان الاميركيين على جدية في التصرف والتعامل والقول وفي مواجهة المشاكل وفي تحمل المسؤوليات
يصعب ان يبلغ إنسان أبلغ منها جدية
ثم كيف يكون هذا الشعب طفلاً وقد اعطى العالم إديسون
وهو يحاول اليوم أن يطول القمر بيده.
جميع الجملات والمناخات وجميع شعوب الأرض
وبعد فغن بلدًا تجد فيه جميع الجمالات وجميع المناخات التي تمكن جميع النبت ان ينبت
فتتوفر فيه جميع انواع الزهور والخضار والثمار
غن امة مكونة من جميع شعوب الأرض التي تزاوجت وتخالطت وتمازجت
فتأتي من كل ذلك أروع وأغرب المواليد
وغن شعبًا وجد نفسه وجهصا لوجه امام عناصر الطبيعة الجبارة فقاومها وروضها وأذلها بغرادة خارقة وجهد عظيم
ثم وجد نفسه وجهًا لوجه أمام كبيرات الأمم والشعوب
فإذا هو معها في صراع هائل
غن بلدًا وأمة وشعبًا على هذا القياس الخارق الفالت من حدود المألوف يحمل القائل على أن يقول فيهما كل أمر غريب، كما يحمل السامع على أن يصدق ما يقال دون ما استغراب.
غير أن الذي يجيء ويرى يتبين انه اليوم أمام بلاد قد روضت عناصرها
فحبست بحارها ولجمت انهارها
وبسطت أرضها
وطعمت نباتها
وجوي حيوانها
حتى صارت مصدر خيرات للعالم أجمع
ويتبين انه اليوم في حضرة أمة لا أدهش تكوينًا ولا أصدق وحدة ولا أصح عزمًا ولا أبلغ نزوحًا إلى الكمال ولا أروع إرادة على الخير
ويتبين انه اليوم في حضرة شعب لم يعرف التاريخ بعد أوفر منه طاقة على العمل أكثر منه قدرة على التحمل وألمع منه دهشصا في الإنشاء
وأقوى منه ساعدًا في التنفيذ.
ولا عرف التاريخ أصدق منه رغبة في تعزيز إنسانية إنسانه
في تكثير خيرات الأرض وفي إشراك جميع أبناء الله بمعطيات الله
أراني سعيدًا لاني جئت فرأيت
وأراني اكثر سعادة لو يتاح للكثيرين غيري ان يجيئوا فيروا
فينتفي الافتراق
ويتمجد اسم الله في خلقه
المغتربون اللبنانيون بين أهلهم
وبعد فإذا كان لا بد من شكر فإنني أوجهه إلى الولايات المتحدة الأميركية
لا إلى الدعوة التي وجهتها إلينا فحسب
وغنما على الرعاية الكريمة التي ترعى بها اللبنانيين المغتربين
جاليات وأفرادًا
وهي رعاية نعتبرها اول مراحل الصداقة بين البلدين
وأمتن أساس لاستمرارها الدائم.