من كانسس سيتي إلى واشنطن تستمر طريق الخضرة حيث يسيل الجمال ناعمًا غزيرًا، وقوي التكاوين، فتبدو واشنطن وكأنها امتداد لكانسس سيتي المدينة الغارقة في الخضرة والجمال والاستمتاع الرخيم.
على رقعة أرض طولها عشرون كيلومترًا وعرضها عشرون كيلومترًا، يتلوى فيها نهر Potomac، على شاكلة نهر السين في باريس،
يمر بها،
يطري جوّها
ويروي الخضرة فيها،
أقعد المهندس الفرنسي "ماكس لانفان" خطوط المدينة الأولى، فإذا هي ككل مدينة سبق فيها التخطيط البناء،
مستقيمة الطرقات،
عريضها،
رتيبة البناء،
أبعد ما يكون عن الفوضى وبشاعتها.
واشنطن كنيويورك بسيطة المسالك،
سهلة المخارج والمداخل،
في قليل من الوقت يكسب الغريب كثيرًا من سهولة التواصل فيها.
فكيف إذا كان دليله إليها واحد من اثنين نبيه نصير، مستشار السفارة/ اللبق الذي نقل/ قنصلاً إلى نيويورك أو سهيل شماس العالم العلامة في شؤونها.
ولكن واشنطن تختلف عن نيويورك بأنها غارقة، حتى قلبها، في الخضرة.
أما نيويورك فتحيط بها الخضرة من بعيد.
إن بعض شوارع واشنطن كالأنفاق معقود عليها بالأغصان.
قناطر من الخضرة فوق شوارع تحلم على وقع أقدام الحسان.
وتكاد تخلو نيويورك من شجرة تلطّف يباسها.
واشنطن يشطرها نهر إلى شطرين ونيويورك يحيط بها نهر (نهر الهدسون) فيجعل منها جزيرة.
واشنطن مدينة تكره الشامخات ونيويورك مدينة تقوم على الناطحات.
واشنطن مدينة تبعد عنها المصانع ونيويورك مدينة تستدعي إليها المصانع.
واشنطن مدينة السياسة ونيويورك مدينة الأعمال.
يعيش في واشنطن مليون نسمة على الخضرة والماء والصفاء وثمانية ملايين نسمة يعيشون في نيويورك الدواليب والمصاعد والطرقات.
في واشنطن بعد بين الشوارع والمنازل فرجة للمنازل والشوارع معًا، وأرصفة مفروشة بالعشب الناعم، وفي نيويورك تبتلع المنازل الشوارع وتشمخ عليها عاليًا.
أما الأرصفة مفروشة بالناس.
في واشنطن السود كثرة وفي نيويورك يندر أن يرى للسود وجه.
ثم إن واشنطن مدينة الجامعات والكنائس ونيويورك لا تأبه لها إلا بمقدار.
خط العظمة
من المدائن التي ما زال لها قلب مدينة واشنطن.
إذ قد لا يبعد أن يكون قلبها ذلك الخط الذي يجمع بين مقابر العظماء ونصب ابراهيم لنكولن ومسلة جورج واشنطن والكابيتول.
فكأنها عقد من اللآلي في سلك من الحرير الأخضر الغارق في الماء.
تباعد بين اللؤلؤة وأختها مروج من النبت وأحواض ماء من صنع يد الإنسان.
لا يرى في مكان على الأرض خطًا مستقيمًا تلتقي عليه العظائم قبل هذا الخط.
فبعد مقابر العظماء في أول خط العظمة النصب التذكاري الذي أقيم لابراهيم لنكولن.
وهو بناء من الرخام الأبيض يصعد إليه بأدراج وسيعة عالية، صمّم على طريقة خليط بين الرومانية والإغريقية.
أشبه ما يكون لبناء هيكل النصر الذي شيّده نابليون فأصبح، من بعد، كنيسة "المدلين" في باريس،
أعمدة مضلّعة مديدة،
عريضة المناكب بيضاء،
يمتد بينها رواق،
وتنبسط فسحة،
في صدرها كرسي من الحجر يجلس عليها ابراهيم لنكولن.
وقد جُعل الكرسي والتمثال بحجم يتناسب وشموخ البناء.
إلى يمين التمثال وشماله مقاطع من خطب الرئيس لنكولن نقشت في الجدران بين الأعمدة.
وقد نقشت على الحائط وراء التمثال وفوق رأس الرئيس العبارة التالية:
IN THIS TEMPLE
AS IN THE HEARTS OF THE PEOPLE
FOR WHOM HE SAVED THE UNION
THE MEMORY OF ABRAHAM LINCOLN
IS ENSHRINED FOR EVER
عند مؤخرة الهيكل ميدان يقوم على حراسته أربعة فرسان على أحصنة من البرونز. وأمام الهيكل تمتد مروج الخضرة وأحواض المياه حتى مسلة جورج واشنطن من حجر الغرانيت، يبلغ علوها 550 قدمًا، يصعد إليها بمصعد كهربائي.
وهي أرفع قمة في واشنطن.
ثم يجيء الكابيتول حيث مجلس الأمة
وهو بناء من الحجر الأبيض،
روماني شاهق،
تعلوه قبة هي القمة الثانية في واشنطن.
وفي الكابيتول أولم لنا الشيوخ وليمة كبرى وحضرنا جلسة من جلسات المجلس رُحب بنا فيها أجمل ترحيب على لسان الخطباء.
ثم تلطّف الحاضرون منهم بمغادرة مقاعدهم والتقدم من المنصة التي وقفنا فيها للسلام علينا سلامًا أخويًا صادقًا.
الجامعات الخمس وشارل مالك
في واشنطن خمس جامعات خص السود بجامعة واحدة غير أن ذلك لا يمنعهم من الانتماء إلى الجامعات الأخرى.
من أكبر هذه الجامعات جامعة جورج تاون للأباء اليسوعيين وهي ككل جامعة اميركية وقع نظرنا عليها مؤلفة من مبان كثيرة تباعد بينها حدائق وجنائن زهور ومروج خضراء