إدوار حنين يكتب من هونكونغ وفورموزا
فتيات جزيرة الجمال يتوقن الوفد اللبناني بعقود الأزهار
سافر منذ أسبوعين وفد برلماني لبناني إلى الصين الوطنية في زيارة لهونغ كونغ وفورموزا ومنها إلى اليابان والفليبين وقد يصل إلى أميركا الشمالية والجنوبية.
وكان من المنتظر أن يرافق الوفد الاستاذ رشدي المعلوف ولكنه اعتذر عن السفر.
وبعد وصول الوفد الصين تلقى الأستاذ معلوف من صديقه النائب إدوار حنين رسالة ضمّنها انطباعاته ومشاهداته وتعتبر هذه الرسالة قطعة ادبية لما جاء فيها من وصف شيق وممتع، نثبتها فيما يلي:
اخي رشدي
لو قبلت الدعوة لكنت بيننا الآن في هونغ كونغ للقفز على فورموزا ولكنت أغنيتني عن الكتابة.
أما وأن ظروفًا شخصية دعتك إلى البقاء في بيروت فصار من حقك علينا ومن حق قراء الجريدة ولا أقول قراءك لانهم وأنا منهم لا يقيمون مقامك أحد أن يطلعوا على تفاصيل هذه الرحلة التي قد تكون من باب المختصر مفيد أو قد تكون من الرحلات السندبادية وفق ما تيسر لها من إمكانيات وظروف.
وعلى كل حال لقد سأل عنك الصينيون في هونغ كونغ لأن اسمك كان قد سبقنا غليهم في عداد أعضاء الوفد.
منديل الليل
ما إن أقلعت بنا الطائرة من بيروت حتى لفنا الليل في منديله الأسود
ولولا قناديل الجبل، جبلنا العالي، التي ما كاد أن التمع نورها حتى خبى لما كان شع في طريقنا نور غير النور الذي كان ينبعث من آبار البترول في الصحراء العربية. لقد كان يشبّه لنا أن هذه المشاعل هي معالم الطريق يهتدي بضوئها الساعون
كأن الذين يجوبون الأرض من السماء بحاجة إلى أضواء الأرض ليهتدوا إلى طريقهم في السماء.
وما كادت تغيب عن عيوننا مشاعل البترول في الكويت حتى عاد الليل يلفنا بمريوله الأسود
فقال احدنا: "في مثل هذه العتمة أفضل طريق خزانتي في غرفة النوم وهي أليفتي منذ عشر سنين في بيتنا الصغير".
وإذا فضل الله تلحوق يهم في الجواب بالقول: "يا قدرة الفرنج"!!
اتون كراتشي والخارجية اللبنانية
عند منتصف الليل كانت الطائرة تتوقف بنا في كراتشي بعد أربع ساعات من الكدح في الظلام الدامس.
وما إن أطللت على باب الطائرة لأنزل حتى لفحتني ريح ساخنة كالهبة المحرقة التي كانت تهب علي من بيت النار في فرن "شمونة"، في قرية أمي الساحلية يوم كنت اندس بين الرقاقات يخبزن لنا المناقيش.
قيل إن درجة الحرارة ساعة ذاك عند منتصف الليل كانت في الخامسة والاربعين. غير أني لا أعرف أن في العلم أو في الاختبار، ما إذا هذه الدرجة تصمد بالحرارة من حد المألوف إلى حد لهيب بيت النار في فرننا الساحلي.
ومع ذلك فما كدنا نطئ أرض المطار في كراتشي حتى مدت بالسلام علينا يد لبنانية إنه الأستاذ زيدان وكان قد قدم من مركز السفارة في باكستان بإشعار من الخارجية اللبنانية ليستقبلنا في الليلة المحرقة.
- ما الذي قدم بك يا أخي إلى هنا في مثل هذه الساعة من الليل؟ (وكانت الساعة الثالثة والنصف عند توقيت الباكستان) وفي مثل هذه الحرارة المحرقة؟
قلت هذا وأنا أتصور ابن الجبل العالي (القصيبة في المتن الأعلى – قضاء بعبدا) يزج به الواجب في أتون من نار.
- كرمى لعيونكم قدمت.
- كرمى لعيوننا كان عليك ألا تفعل.
هؤلاء الشباب المندفعون في خدمة بلادهم من يثيبهم منا، ومن يجزيهم عن البلاد خيرًا!!
مع شارل قرم... وجباة الجزية
وفيما كان الرفاق يغطون في نوم عميق في طريقنا إلى "بنقوم" كنت أجلس إلى شارل قرم، أستمع إليه في محاضرة فائقة زودني بها أخي ميشال أسمر، زاد ابتعاد ومعاد.
كنت أقرأ شارل قرم، وأشعر انه يقذف بي صعدًا في السماء فوق ما كانت الطائرة تستطيع ان تفعل.
ثم جرى بينه وبيني حديث:
- أفلا تعتقد يا كبيرنا أنه حق للبنانيين جزية على العالم منذ اليوم أطلقوا فيه الأبجدية والملاحة؟
وأسمعه يجيب وهو في بيروت:
- بلى . وإن مغتربيهم، اليوم، هم بمثابة الجباة. جباة الجزية التي استحققت لنا منذ أن علمنا الناس الأبجدية والملاحة.
آسيا الخضراء وجبال من النفناف الأبيض
وتشرق الشمس فتشرق علينا آسيا الخضراء، تحت جبال من النفناف الأبيض.
من "بنقوم" إلى "بنكوك" إلى "هونكونغ" كنا ننزلق على متن جبال بيضاء تنشق من تحتنا احيانًا فتنقشع السهول التي تموّه بها الخضرة والمياه.
في السهول التي من تحتنا نهر يتعرج ويتشعب وينفلش ثم يتجمع ويلتم على آلاف الأميال.
تعرّض لنا في الطريق عشرات المرات واختبرناه من الجو عشرات المرات وما زال يمد ويتعرّج ويتشعّب ويلتم نحوًا من ستة ساعات مشية الطائرة السريعة.
هذا النهر "نهر ميكونغ" واحد من أحد عشر نهرًا أكبر ما على الأرض.
نهر واحد يمرع السهول جميعًا.
إنها خاصة آسيوية.
مثل نهر "ميكونك" مثل طاغور الذي كان يمرع الهند وحده وقد كان طاغور أيضًا يتشعب سواقي وجداول:
هنا النثر،
هنا الشعر،
هنا النحت والتصوير،
هنا الموسيقى،
وهنا العلم والفلسفة والتصوف.
تبدو "بنقوم: مدينة عائمة على سهل مائع.
أحواض من الماء العكر تباعد بين الواحد والآخر منها ممرات خضر.
كأنها البلاط الأصفر الذي تفلش به أرض الحدائق في الدارات الفخمة ببيروت.
وكأن الممرات ذاك العشب الناعم الذي ينبت بين البلاط.
وعندما يشق الأهلون دروبهم ودروب السيارات في تلك السهول المتهادية ينهضونها على تراب مكدس.
أما القرى والبيوت فتمتد على ضفتي السواقي والجداول والاقنية المتفرغة منه أو الصابة فيه ولا يقوم العمران على ضفة الطريق كما هي العادة عندنا في لبنان.
لأن شرايين الحياة هنا الأنهر لا الطرقات.
وكأن الدراجات الأنيقة التي لا تلتزم الصف على ضفة النهر فيحيد بها أصحابها من اصطفاف المنازل...
كأنها جزائر من خضار في السهول الغارقة في المياه.
هذه السهول المعومة العائمة تدعو إلى التفكير بالفتوحات الآسيوية.
تلك الفتوحات التي كان يندفع بها هولاكو أو جنكيزخان...
لقد كان ينطلق من أرض لا تهدأ تحت قدميه حتى إذا ما جمدت الأرض لرجله قوي وتعاظم بأسه، واشتد على الفتح، ثم راح بقوة مضاعفة مرارًا على قوته الأصلية من جمود الأرض تحت أقدام المحاربين يحمل الفتح من دار إلى دار فلا يهدأ إلا مع هدأة الحياة في أعراقه.
إطلالة على هونكونغ
واخيرًا، طلعت علينا اليابسة من أعماق البحار ولعلها هونكونغ!
لا لم تكن هونكونغ.
إن هي إلا جزر كتلك التي تتحلّق في الأرخبيل من بحر اليونان.
بعض هذه الجزر صغيرة.
على جمالها لا تزال خاوية خالية حتى من أكوام الصيادين لأن يد الإنسان لم تبلغ إليها بعد.
وبعضها تتراءى فيها دروب.
إنها مطروقة ولكنها غير آهلة.
أما البعض القليل فقد امتد إليه العمران فقامت على هضباتها بيوت يغلب عليها اللون الأبيض.
إن جزر الأمراء في عرض البحر –مرمرا- ليست اجمل منها كلعة، ولا جزيرة – كابوي – أجمل منها.
غير أن يد الإنسان قد عملت هناك فوق ما عملت هنا.
ومن المؤمل أن تسارع الناس بتعمير هذه الجزر الحلوة على ما يعرف من تكاثر السكان في هونكونغ واتساعها المطرد.
أما هونكونغ المدينة فستطلع عليك من رؤوس الروابي، من سفوحها، من الأودية التي بينها.
كلها خضراء.
الخضرة تكمل زرقة البحر الناعمة.
المدية مترامية الأطراف.
هي وضاحيتها الملتصقة بها تتسع لخمسة ملايين نسمة.
اول ما يتبادر إلى ذهنك ساعة تطل إليها أنها تطل على اسطنبول وأن البحر الذي يباعد بين شقيها هو البوسفور بالذات وقرن الذهب.
فسحة الماء بين شطري المدينة طولاً وعرضًا كفسحة المياه التي بين اسطنبول والأكواخ. وهذه تقبع مطمئنة تحت جناح تلك فلا تجاور ولا تحاسد ولا تباغض.
أما في الليل فلا يستفيد البؤساء من العتمة ليناموا على أحمالهم في الدروب وشوارع المدينة والأرصفة وعلى أقدام ورش العمار الطالع.
ذلك ان هونكونغ مدينة منورة ملألأة زاهية.
الكهرباء تجن ليلها في ألف لون ولون حتى ان المحلات التجارية تبقى مطوية الليل كله حتى انها مقفلة من وراء الزجاج.
والحركة لا تنقطع فيها حتى مطلع الصباح.
سنعود على الغالب إلى هونكونغ التي بتنا فيها ليلة واحدة وساعود إلى الحديث عنها في وقت قريب إن شاء الله.
فورموزا
منذ خمس دقائق لجأنا إلى الفندق الكبير في نيبي عاصمة الجمهورية الصينية.
ولا أدري لماذا لا يحبون، هنا، أن تسمى جزيرتهم "فورموزا" بل يرغبون في تسميتها تايوان.
لعل السبب في ذلك هو ما يعيد اسم "فورموزا" إلى الأذهان من قصف اليابانيين لها ومن دعاية مشينة شنها الشيوعيون على الوطنيين كانت مركزة كلها على اسم "فورموزا" ومن ينتسب إليها.
قدمنا إليها من هونكونغ إلى البحر.
قبل أن نطل على فورموزا بقليل طلعت علينا مجموعة من الجزر الصغيرة، كلها آهلة وجميلة.
كأنها طلائع فورموزا في المتن الأعلى تكسوها الأشجار الحرجية فتشعر جهمة الصخور.
الأودية والسهول تسيل خضرة.
كلها من المزروعات الخفيفة.
تكاد لا ترى وجه الأرض ولا في الأماكن القليلة التي يعدها أصحابها للزرع التي تغطيها على الغالب من نوع التربة الساحلية في لبنان وهي كثيرة الخصب.
زراعتها سهلة لأنها في السهل.
اما الطقس اليوم فهو على أكثر ما تبلغ إليه حرارة الجزيرة.
إنه أقصى مما عندنا في آب اللهاب وأحيانًا عندما ننسى أننا في فورموزا يتشبه لنا اننا في أيام الشرقيات في لبنان.
غير أن كل ذلك مقبول وإزعاجه قليل.
من مطار الفندق.
حال وطات أقدامنا أرض فورموزا، استقبلتنا على المطار لجنة مؤلفة خصيصًا لذلك مشكلة من كبار الموظفين في المجلس التشريعي ووزارة الخارجية وديوان الرئاسة.
وكان اول ما أرادته لنا لجنة الاستقبال أن اختارت ثلاث فتيات جميلات رحن يطوقن عنق كل واحد منا بعقد من الزهور.
ثم استقبلنا الشعب الحاضر بالتصفيق.
التصفيق الذي يقول : أهلاً وسهلاً.
وكانت هذه العبارة كانها تطفح من الوجوه حتى خيّل إلي بلمحة خاطفة أن هذا الشعب يريد ما تريده حكومته.
وأنه كان يصفق لها لا للوفد القادم.
أربع سيارات حديثة فخمة يخفق على كل واحدة منها علمان علم الجمهورية الصينية والعلم اللبناني كانت تنتظرنا في داخل المطار، فأقلتنا إلى الفندق الكبير حيث هيأت لنا ثماني غرف: واحدة لكل واحد منا.
اما الثامنة فللمرافق الخاص الذي يلازمنا كظلنا: شاب في منتهى الثقافة واللياقة والذوق.
يقوم الفندق الكبير على رابية خضراء في الضفة اليمنى من النهر.
بناء فخم،
غرف رحبة مكيفة جميعها بالهواء البارد.
فرش أنيق،
وحمامات حديثة.
تحيط بالبناء حدائق مديدة.
في قلب هذه الحدائق بحيرة للسباحة، من أجمل ما يمكن أن تقع عليه العين.
تفوح منه رائحة النظافة التي هي عند الصينيين شيء من القداسة.
أما الخدم الذين انقطعوا لنا فكانوا ذكور لطفاء مدربون.
في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار تطلبهم فتجدهم.
كأنهم واقفون وراء باب غرفتك: بشاشة وأدب ولطف وسرعة خاطفة في الاستجابة للمطالب وكلهم يعرف لغة أجنبية إلى جانب اللغة الأصلية وهي على الغالب الإنكليزية.
برنامج الزيارة
كان ينتظر كل واحد منا على الطاولة في غرفة نومه كراس حلو الطباعة في اللغتين الصينية والإنكليزية يزين غلافه علمان علم الجمهورية الصينية والعلم اللبناني. جعلت في اوائل صفحاته صور لأعضاء الوفد مع تعريف لكل واحد منهم... ثم ادرج برنامج الزيارة الذي أبرز ما فيه، بعد الزيارات الرسمية:
زيارة المنشآت الزراعية
زيارة السدود في شهمان
زيارة المنشآت العسكرية "سونفشان"
زيارة مصفاة البترول في "كونشيونغ"
زيارة القاعدة البحرية في "تسوينغ"
زيارة معامل الألومنيوم في "كونسشونغ"
وقد وضعت طائرة خصوصية تحت تصرف الوفد تتولى نقله للقيام بهذه الزيارات.