رسالة لإدوار حنين من باريس عن الفن
الجمهورية عهّرت ما عملته الملكية والغمبراطورية لفرنسا وباريس
في اللوفر روائع يطيب لبعض الدول أن تعطي أسطولاً لتأخذ واحدًا منها
بيت كليمنصو شهادة حية على تعظيم الخدمة الوطنية ونكران الجميل.
قام نائب بعبدا، الأستاذ إدوار حنين، برحلة استجمامية إلى روما، وميلانو وفلورنسا وتورينو وباريس، استغرقت حوالي أشهر.
ومن وحي انطباعاته ومشاهداته في العاصمة الفرنسية، كتب هذه الرسالة المطولة، إلى صديقه الأستاذ رشدي المعلوف ننشرها فيما يلي، انطوت عليه من لمعة أدبية عن معلم الفن في متاحف باريس، وشوارعها وساحاتها وكل زاوية فيها.
أخي رشدي،
النائب في باريس كالغارق في البحر وإن عرف فبالصدفة التي أضحكت العالم قديمًا على صبي والتي ستضحك العالم اليوم على صبي مثله.
غير أن عذري حيال هذا الموضوع تواضع قصدي:
وهو أن أبدي في هذه الرسالة بعض الخواطر والمشاهدات التي ان فاتها الدقة والشمول فلن يفوتها.
إنها خواطر مشاهدات صاحبها حققها من الجدة حاله من اللحظة الأولى.
وحظ القارئ أن تلهيه على كل حال أنه يرى كيف ترى عين مدهوشة مذعورة، مسعورة، عطشى.
خد باريس الأسمر
وجه باريس كالح من رواسب دخان يستقر على خدها الأبيض فيسمر.
غير أن هذا لا يعطيها لون الكآبة.
فإن غاب عنها مرح اللون فلن يغيب عنها مرح ما في الخطوط والزخاريف.
فهي العروس الغارقة في التول والأزاهير.
تغمد المدينة على بسطة من الأرض.
لا تنحدب إلا في موتمارلو حيث تقوم على أعلى ذروة فيها كنيسة القلب الأقدس (120 م.) هذه القعدة على سهل تعطي شوارعها سعة وامتدادًا بحيث أن بعضها يقارب العشرين كيلومترًا طولاً، والخمسين مترًا عرضًا، فتتعاقب فيها القصور، والحدائق والساحات، وتنسكب على جوانبها شلالات من المقاهي، والمطاعم والبارات والواجهات الانيقة.
نافض في الطابع
لا جادة، لا ساحة، لا شارع، لا طريق، لا زقاق في باريس يشبه الآخر.
لكل جادة أو شارع او زقاق طابعه الخاص شخصيته المميزة سيرته حياته أسلوبه وناسه.
حتى أن كل بناء على جوانب الشوارع يتميز عن كل بناء آخر.
فإنه أبعد ما يكون عن سكب الإسمنت في قالب واحد، أو قوالب متشابها، على ما نجد البناء الحديث في نيويورك، مثلاً، وعلى ما هي الشوارع فيها.
وما زالت الشوارع هنا، تعتز بأسمائها، والحمد لله، كبيرها وصغيرها، فلا تتسمى بالأرقام البواهت.
تقصف من دلال
ينفس عند المدينة غابتان:
غابة بولونيا وغابة فانسين.
ملتصقتان بالمدينة.
تصب فيهما شوارعها من كل ميل كما تصب شوارع مونتيرو ولوزان وجنيف عند بحيرة ماجور.
كل واحدة من الغابتين تتسع لأبناء المدينة وزوارها إذا شاؤوا أن أن يخرجوا إليها دفعة واحدة.
وقد رأينا في رحلة سابقة معظم باريس في غابة بولونيا أيام اشتد فيها الحر.
وكنا بينهم حول البحيرات والشلالات الغائصة في الخضرة الفائقة.
ويتلوى في قلب المدينة متقصفًا من دلال نهر السين الذي صار في أغاني الفرنسيين كأشهر حالهم وفي حياتهم كأروع مراتعهم.
شعب باريس
أعظم ما في باريس شعبها.
اصيلاً كان أم دخيلاً.
لأن الدخيل فيها ينسجم مع الأصيل في أقل من حياة الندى على الورود.
شعب باريس متأنق على غير تعنت.
محراك على غير عكرة.
مضياف على غير تزلف.
بشوش على اباء.
يفسح لك في العيش إلى جانبه ولكنه يأبى عليك أن تطأ رجله.
الباريسيات يتزين لرجالهن يتطيبن لرجالهن وينزلن إلى الشارع للقاء رجلهن.
إفتراء أن يقال إن المرأة الباريسية مصيدة الغريب.
إنها أهنأ ما تكون في ذراع رجلها ويسعد رجلها أن يصطادها في الطريق.
وفي البعيد عن المادلين والأوبرا والشانزيليزيه وساحات بيفال، ومون مارلو، ومون بارناس تجد الطهر يمشي على الأرض خفر وحياء وعفة وأدب على نحو ما عليه بناتنا في الجبال العالية.
والعائلة الباريسية عندما ترسم لنفسها أن تظل عائلة فهي قدوة ومثال.
عين وقلب وبطن
شعب باريس يعيش لعينه ولقلبه، ولبطنه.
من اجل عينه لا عيب في بناء، لا نفرة في واجهة، ولا اعوجاج في ثوب.
اللهم إلا الهنات الهينات التي تعتور النظافة أحيانًا.
ففي كبريات مقاهي باريس يحجبون المنافض عن الزبائن، فتتكدس اعقاب السجائر على الأرض.
وفي بعض شوارعها لا مكان لصناديق الأقذار.
مما يؤذي الذي عبر في تورينو وروما.
ومن أجل قلبه، أفسح للجمال في كل زاوية من مدينته الكبرى، استثارة للحب وتظليلاً له، فيعيش فيها على هواه.
أما بطنه فقد أقام له المطاعم، والمقاهي، والبارات في طول المدينة وعرضها. حتى أنك تحسب ان هذه المدينة العظمى مطعم ومقهى وبار.
شعب باريس ألف الجمال بحيث تجاوز مرحلة التذوق إلى صعيد الالصنع.
وألف الحب بحيث أدرك الملاك من وراء البهيمة.
وألف الطيبات جميعًا، بحيث انها صارت بين يديه تجويدًا لإنسانية الإنسان وسلمًا يرقى فيه من المتعة البلهاء إلى الخلق المحيي.
وشعب باريس معزوفة تتجاوب مع الخضرة والما والاناقة والحلاواة.
وقد أدرك أو قارب أن يدرك آخر حدود الطين.
برج إيفل
إن ما انبثق عن شعب باريس لرفاهية شعب باريس، أو ما عمل من عظمائه له يبقى أعظم ما انبثق عن شعب، في الحاضر، لهناء شعب، لمجد إنسانيته وخيره.
القادم من روما وفلورنسا وتورينو وميلانو إلى باريس يحار في ما تستطيعه هذه المدينة، بعد، لتسند سمعتها كمدينة أولى بين المدائن الأوائل.
والذي في قلبه حب لباريس يقلق من هذا.
تصل فترى أن أرفع ما فيها بناء من الحديد المشبك.
يرجع تاريخه إلى مناسبة من مناسبات آخر القرن الغابر.
يقف وحده على ضفة النهر مزهوًا بطوله.
ينقر السماء بانفه، يضحك من قصر شابو المنبطح مع حدائقه على قدميه، ويغمز من قبة كنيسة القلب الأقدسالتي تعالت على أرفع تلة في باريس وما بلغت شاوه.
عمود من الحديد. في وجهه صفافة الحديد. في قدمه جمدة الحديد. وفي قلبه قساوة الحديد. ويرمز مع ذلك إلى مدينة الجمال.
زرعه في مكانه إيفل ومضى يلقى وجه ربه في الأرض من تحته (لو أنه، على الأقل، لقى ربه من قمة البرج في الأعالي.).
فتعود بك الذكرى ، وأنت تقلب النظر فيه، إلى برج تورينو، من الرخام الأبيض، مداميك مداميك، يزحف ، زحف المصلين إلى ربه،.يقوم على التسابيح، تغزله يد المدينة في خشية ورهبة ومحبة، فيبهت في عينك النور.
ثم تعود بك الذكرى إلى برج "بيزا" الذي يميل عن النجوم استحياء من وجه الله، استحياء من العقل الذي صمم، ومن الأيدي التي تجرحت في بنائه... فتفضى.
كاتدرائية نوتردام
ثم ترى كاتدرائية "نوتردام" الرافعة قبابها على غابة من العواميد الواخزة صدر الغمام بمسلة يتيمة، التي تخرمها التماثيل،
وتتألق الفنون في مدارجها،
في أبوابها،
في زجاج شبابيكها،
في قبابها،
في مذابحها،
في جدرانها.
فتتذكر كاتدرائية ميلانو الرابضة على صدر المدينة الناشرة ظلها على الميلانيين جميعًا، التي تعيش فيها دنيا من الفنون وعالم من التماثيل، المخرمة تخريم النحيف في جبالنا، أو تخريم يد الميلانيات الناعم، المشغولة شغل الجواهر على يد صانع ماهر، ظهرها وصدرها، وما في باطن ظهرها وباطن صدرها سواء...
فتذكر كاتدرائية ميلانو وتفضي.
ثم ترى القباب في "ألقلب الأقدس" في البنتيون، في الأنفليد، فتنقر ذاكرتك قبة فلورنسا وروما فتطأطئ الرأس وتفضي.
ثم ترى رش الأنصاب والتماثيل في الحدائق والساحات رشًا خفيفًا كشقائق النعمان في حقل قمح أخضر، فتشب إليك غابة التماثيل من أحضان روما، ألف تمثال وتمثال لألف رجل ورجل ، من مشارق التاريخ حتى مغارب التاريخ.
فتركع إجلالاً لغابة التماثيل وتفضي.
مدينة الموتى
ثم ترى المدافن في مقابر الأب "لاشيز" وفي مقابر "مون مارتر" تفننا في الخطوط والقناطر والقباب وفي رصف الرخام، على بساطة وذوق، فتضج في خاطرك مقابر جنوى ومقابر ميلانو التي تضيف إلى ذلك جميعًا التمثيل في الحجر لكل عاطفة إنسانية يستثيرها الموت والحياة. بحيث أن مدينة الموتى، هناك، مدينة من التماثيل، لا حصر لها ولا عد. تعج بمخلوقات الإنسان على قدر ما غيب الموت من مخلوقات الله أو يكاد.
فتتملكك نشوة الإبداع وتفضي.
جولة في المتاحف
ثم تظل من نكسة إلى نكسة، ومن اكتئاب إلى اكتئاب حتى تحجم أمرك وتلج في المتاحف. متاحف لكل شكل ولون.
متاحف النحت منذ أول ما خلق الإنسان في الحجر مخلوقًا على صورته ومثاله إلى يومنا المتأخر هذا.
متاحف التصوير منذ أول ما طلع وجه إنسان على يد إنسان من اللون والزيت إلى يومنا المتأخر هذا.
متاحف الأزياء منذ ان خطر الأغواء في خاطر الإنسان إلى يومنا هذا.
متاحف التزين منذ أن صقل الفولاذ مرايات، ودق الأسود كحلاً، ونعم الحديد أمشاطًا، وصيغ الذهب حليًا، ورفعت الحجارة إلى جواهر، ووشمت الأصابع والمعاصم والآذان إلى حمل الخواتم، والأساور، والحلق، إلى يومنا المتأخر هذا.
متاحف الترفيه منذ أن صارت لنا أسرة وخزائن ومقاعد وسجاجيد، وقباقيب، وننعال، إلى يومنا هذا.
متاحف النقود منذ أن بطلت المقايضة فابتكر الإنسان الحديد والفضة والذهب ثمنًا للبضائع.
ومتاحف الرجال تخليدًا لاعمال الرجال بتخليد بقائهم. من متحف "اللوفر" إلى "النفاليد" إلى البنتيون"، إلى متحف "كرنافاليه" إلى متحف "كلينيي"، إلى متحف قاعة "الجو دي بوم" إلى متحف "رودين" فمتحف كليمنصو ومتحف فيكتور هوغو، وإلى العشرات غيرها من المتاحف التي لم يتسن العبور في بعضها ولو خطفًا سريعًا، تبدأ أن تتفاعل أمام عينها – عفوك يا ألله، عفو مواهبك السخية – على عظمة ما فيها متاحف فلورنسا وميلانو وقد تكون متاحف روما... فمن يدري؟!
نظام المتاحف
ليس علي ان أتحدث إليك عن كل ما رأيت في هذه المتاحف.
ليس هذا بمقدور احد ولا بمقدوري . على كل حال.
ولكن لا بد من بعض ما من شأنه أن يفتح بخيالك طاقات في التصور.
لكل متحف في باريس نظام مستقل. فمنها ما يفتح ليلاً، ومنها ما يغلق يومًا في الأسبوع غير اليوم الذي يغلق فيه آخر. ومنها ما يفتح من الثامنة حتى الظهر، ومنها ما يفتح من العاشرة حتى الخامسة . ومنها ما يفتح من الثانية حتى السادسة ألخ... بحيث أن السائح في كل ساعة من ساعات الليل والنهار لا يعدم متحفًا يستطيع أن يتجول فيه.
أنا في اللوفر
وصلت إلى "أللوفر في التاسعة صباحًا وهو من المتاحف التي تفتح في العاشرة – فالتقيت جيشًا من الراغبين. ينتظر بيعضهم في الحدائق. بعضهم في الساحات بعضهم في الأروقة. بعضهم على الأدراج جلوسًا وقعودًا وقعدة القرفصاء.وما إن شق الباب عن الكنوز حتى تدافع الناس إليه. مثلهم في زحمة استلام الإعاشة عندنا. مئات تدفع المئات برفق.
كان هذا المتحف الدائك (الذي إذا أوصدت بعض أبوابه لأشغال طارئة تبقى على انفتاحها أبواب) يستقبل الراغبين لأول مرة ثم تلج فكأنك في فينيقيا الخالدة على الدهر لوفرة ما تجمع من فينيقيا، في دهاليز اللوفر وأروقته وقاعاته. وهكذا في الجناحات الموقوفة على الفراعنة والرومان والإغريق ومن إليهم جميعًا. ويطلع عليك الملوك والأباطرة العتاق من كل زاوية وساح فلا ترى نفسك غريبًا بين الوجوه التي عرفتها في التاريخ. حتى لكأنك بين أهل عندما يطل عليك "كركلا" و"جوليا دمنا" وشقيقاتها اللواتي حكمن روما من خلال الحاكمين. ثم تتجمد في الحجر أمام عينيك وجوه تحبها: هنا أبقور، وأشين، وهنا أفلاطون وأرسطو. وهو على غير ما يتصور شارل مالك. لأن صلعة أرسطو هذا الذي يستظل اللوفر طلعة راهب ماروني من بقرقاشا أو وادي قنوبين.
ثم يتعرى أمامك أبولون وأريان، فأفروديت وزوس في مبتهجهم وفخامات جدهم. وتظل تسعى حتى تهبط إلى جناح روما وأثنا في حياتهما الخاصة فترى المرايات والمكاحل والقوارير والخواتم والدبابيس والعقود والتيجان والامشاط والحلق والمصابيح والأسرة والمقاعد والاكواب والاباريق والوالجوت ووالمعالق والمغارف والموازين والأدمان والطاسات والسطول والأقراط والأساور وما إلى غير ذلك مما يلفت أول ما تبلغ إلى مثله بعد المدنية التي فيها نعيش.
وقد صنعت هذه الآنية من الحجارة والمعادن والزجاج. وكلها حجارة كريمة تتسلسل ألوانها من حد بياض الماء في البلور الصخري إلى حد الأسود. مرورًا بالأخضر والبرتقالي والقرميدي والاحمر والبنفسجي واللازوردي والأصفر المثوب بالأبيض والأصفر المشوب بالأخضر أو الأحمر والخمري، والرمادي ومنها الشفاف ومنها نصف الشفاف ومنها الكثيف المغلق تمامًا.
وتعرج في رواقات التصوير على أضخم مجموعات لأروع روائع المشاهير. ولعل أضخم ما لروبنس في أكبر متاحف العالم ما هو في اللوفر . وإنك لتجد فيه إلى جانب لاجوكوند لدى فنشي ورفائيلي، روائع كالناسك والعائلة المقدسة...
في متحف رودين
رودين نحاة ورسام.
تملأ قاعات المتحف ودروب الحديقة تماثيله، وتملأ جدرانها التصاوير.
أكثر تصاويره بالماء والفحم.
تبدو كأنها دروس للرؤوس، والأجساد العارية، والأيدي النابتة من كل صوب.
غير أن بعضها لم ينحت في الصخر، فظل في الورق.
الإزميل بين أصابع رودين أخف من الريشة والقلم.
فهو تواق إليه أكثر منه إلى الريشة وهو سيد ذاك وصديق هذه.
يتحكم بالإزميل بقلبه على رؤوس الأصابع فتنفح منه الجمال في الصخر على ما يشتهي.
يؤثر الرخام الأبيض على كل صخر آخر.
ولم ينحت في الغالب إلا فيه.
وهو معلم جبران.
ليس في عالم النحت والحفر والتجسيد من استأنف طريق الروائع روائع العظماء في فلورنسا وروما مثل رودين.
وحده عايش الصخور الصخور عمره، طوعها بين يديه على مدى عمر كامل. فأثقلها بالتأليف من صنعه معيدًا في ذلك مجد ميكاييل أنجلو وبرونيلشي ودوناتلو وأمثالهم. له في التأليف كثير.
وقد شهدنا له في المتحف باب الجحيم وبورجوا دو كاليه ومنحوتات أعدت لتخليد فكتور هوغو وبلزاك.
وهو باب الجحيم هذا الذي شغل عالم الفن، إلى حين، عن بدعة برونيليني، باب الجنة، في فلورنسا، وعنباب البيض وغيرهما.
وقد فرع رودين من محفورات هذا "الباب العالي" بعض المواضيع فصير منها روائع مستقلة أهمها المفكر والظلال الثلاثة والمراة المقرفصة والولد الضال وغيرها الكثير مما نفض عنه إزميله أو مما كان لم يزل يتململ فيه.
أما في غير التآليف من نحت رؤوس وأجساد وأيدي، في دائرة شخص أو بصمة أشخاص، فقد خلق لنفسه