إدوار حنين يكتب من الفيليبين
الفيليبينيون شعب ضحوك لا إرادة له على العمل
لبناني في اليليبين يملك نصف إحدى الجزر
هذه هي الرسالة الرابعة التي يكتبها النائب إدوار حنين من الفيليبين، إلى صديقه الأستاذ رشدي المعلوف وقد ضمنها مشاهداته وانطباعاته عن هذه البلاد.
اخي رشدي،
عندما قربنا مانيلا كان الجو عكرًا والضباب يكتنف المدينة يشد عليها مجالات النظر. أبعد ما كنا نرى طرف جناح الطائرة.
قبل الهبوط بنصف ساعة أشير علينا بوضع الحزام. وقد مرت المضيفات تحكم وضعه على كل واحد منا.
ثم لم نلبث ان شعرنا بهبوط سريع.
كان "عنزوفة" في طريق العودة. وعلى بضعة أمتار من الأرض لمحنا أرض المطار. الأمطار كانت كاسحة. شلة من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والأتراك العرب النازحين من الإسكندرون كانوا ينتظرون وصولنا على رأسهم قنصل لبنان السيد بطرس عواد.
ضباب كثيف وطائرات تتحطم.
في مجالات اجتماعنا إلى أعضاء الجالية عرفنا انهم كانوا يخافون علينا ساعة الهبوط. وقد اخبرنا بعضهم أن الضباب الكثيف في الفيليبين كان سببًا لحوادث جوية تعرضت لها طائرات كثيرة. خصوصًا طائرة النقل الداخلي. وأن رئيس الجمهورية السابق قد قتل في حادث طائرة ارتطمت بجبل من جراء الضباب. وقد رأيناهم يبالغون في حمدلة الله على سلامة وصولنا.
طوفان
بعد أن أنجز القنصل عواد المعاملات الجمركية دعانا إلى ركوب سيارته وسيارتين كانتا في خدمتنا. واحدة للسيد سمار (ابن عم رائف سماره كاتب العدل في بيروت) والثانية للسيد عصمت حماده (ابن شقيقة الشيخ سعيد حمادة) واتجهنا ناحية الفندق. وإذا بنا نسلك طريقًا كالساقية تفضي بنا إلى ساحة كالبحيرة فننتهي إلى سواقي لا حد لها ولا عد. المياه كانت تتسرب إلينا من الأبواب وتعلو حتى المقاعد.
- ماذا في المدينة؟
- الجديد عليكم معروف لدينا، ولا يخيفنا. منذ ثلاثة أيام والامطار تهطل بدون ما انقطاع. لقد بدأ عندنا فصل الشتاء. ثلث شوارع المدينة وأرضها يصيبها طوفان كهذا مرارًا كل عام. غير ان ذلك لا يؤذي المنازل والدكاكين المرتفعة عن الأرض حتى حدود ارتفاع المياه عادة. والطرقات مبنية بحيث لا يغمر ارتفاع المياه فيها غير القسم الأدنى من السيارات. والمعالم على ضفتي الطريق تبقى عالية لتدل السائق إلى الحد الذي لا خشية معه.
- ولماذا لا يرفعون الطرقات اكثر من ذلك؟ ولماذا لا يوجدون مصارف المياه؟ لماذا...
- إن عملية رفع المدينة تفاديًا لتجمع المياه وتسهيلاً لانصبابها في البحر عملية يثتضي لها ملايين الملايين. العمل يصير تدريجيًا ولكنه لا ينتهي قبل عشرات من السنوات.
في سواقي المدينة وطرقاتها – أي بشوارعها وساحاتها المعومة – صبية وفتيان ونساء:
اما الصبية فيلهون ويلعبون.
وأما الفتيان فيساعدون السيارات في مجالات العبور. يجلسون على مؤخرة السيارة حتى إذا ما تعثر مرورها نزلوا يساعدونها جرًا في المياه.
وأما النساء فيتنقلن بين بيوتهن وبيوت الجارات. الماء فوق ركابهن. حافيات رافعات ثيابهن حتى آخر الفخذ. ماشيات يمهلن. قد يكون لوصل ما انقطع بينهن من حديث بدأ قبل الطوفان.
ومع ذلك فإن حركة المرور لا تنقطع. ولا تغلق الحوانيت، أكثر ما يعقب هذا الطوفان قطع بعض خطوط التلفون وشيء من الأوحال ترسب في غير مواضعها.
... وفي اليوم الثاني هدأت الامطار، وارتفع القمر واستأنفت المدينة حياتها العادية. كأن مياهًا لم تخرج من مجاريها لتسرح في أرض المدينة.
مناخ ... وشعب
هذا الطوفان مكننا من أن نعرف الشعب "على الزلط" عريانًا، وأن نعرف مناخ المدينة. الفيليبينيون الأصليون هؤلاء الذين ينزلون عراة في الماء دون الربعة جميعًا. الناس هنا كما في الصين، لا يطولون ولا يسمنون، إنهم متواضعون ولا يحبون أن يشغلوا مساحة كبيرة من أرض الله الواسعة...
سمرتهم محروقة، تميل إلى الحمرة.
ذقونهم بارزة وجباههم هاربة.
فإذا كان حقًا أن الإنسان من السعدان فإن الفيليبينيين أحفظ منا أصلاً.
الفقر متسع. غير أن الفيليبيني يقنع بالقليل. حتى هذا القليل كثيرًا ما لا يدركه أكثر الامراض تفشيًا بين الشعب السل.
شعب ضحوك ومحراك وطروب لا جلد له على العمل أو المواظبة على العمل. معياط رقوص ويحب الغناء.
أما مناخ الفيليبين فحريق وغريق.
لم يمنع الطوفان اشتداد الحر. وإن كان قد رطب الجو قليلاً. وما إن جلت المياه عن أرض المدينة حتى عاد الحر يجري مجراه الطبيعي.
فيوم كان الحر يثقل علينا كثيرًا في فورموزا كان في الفيليبين أكثر على زوارها وأبنائها. اما اليوم فالحران متساويان والعادة ان الحر هنا يطفو أكثر من هناك.
إن الخلط بين الدم الفيليبيني والدم الإسباني اعطى نتائج مشكورة وهكذا الدمج بين الدم الاميركي والدم الفيليبيني. وقد رأينا من نتاجه ما يعجب حقًا.
اما التزويج بين اللبنانيين والفيليبينيين فلا يوفق إلى نتائج حميدة.
لبس النساء الرسمي فيه الكثير من الرواسب الماضية. في فساتينهن أجنحة على الأكتاف كفراخ ملائكة. الرداء طويل إلى ما يفوق الكاحلين بقليل. في مؤخرة الرداء عند حد البطنين عقدة تجعل الرداء ضيقًا في هذا المكان، والخطو قصيرًا من جراء ذلك.
أما الرجال فيلبسون قميصًا مطرزة تطريزًا وهي قمصان تقوم مكان السترة. فوق النبطلون حتى حدود السترة أو أكثر قليلاً. وهذا النوع من القمصان مقبول في الدعوات الرسمية. وقد فرضته ظروف البلاد الحارة.
وجه المدينة.
لم نتمكن ان نرى المدينة من الجو. إذ يوم قدومنا إليها كانت تقع تحت حجاب من الضباب الكثيف.
ولم نتمكن ان نجوب شوارعها وأحياءها من الحد إلى الحد على الرغم من الساعات الطوال التي انفقناها من التجوال فيها.
بيد أن هذا الذي رأيناه كان كافيًا لنرى أن وجه المدينة اخضر تغلب عليه الحدائق. الساحات العامة والارصفة مكسوة بالعشب بدلاً من الإسفلت وهكذا ساحات الفندق الذي نحن فيه.
الطرقات تقطع هذه الساحات كحبال رفيعة سعة سيارتين متقابلتين. الأشجار الكثيفة الخضرة تقوم على جوانب الطرقات. لا شارع أجرد مهما كان حديث الإنشاء.
لدى السؤال اجاب القنصل عواد: لا غرابة في ذلك. فإن الزرع ينبت بسرعة. وهكذا الغرس. الأرض خصبة. حر النهار وشتاء الليل والشعب لا يعبث بغرسه.
شوارع المدينة كلها عريضة والأرصفة قائمة في جوانبها. وهي عريضة مثلها. البناء الشاهق قليل بسبب الزلازل التي تدهم المدينة من حين إلى حين. أحياء المدينة القديمة بناؤها من الخشب. وقبل وصولنا بأسابيع قليلة اندلعت النار في حي من أحياء المدينة - وقد رأيناه – فالتهمته جميعًا.
حيث يقيم القنصل عواد حي الاثرياء. هو في أرفع مكان من العاصمة. لا تتسرب إليه مياه الطوفان. البناء فيه من الإسمنت المسلح وعلى احدث هندسة. كله دارات جميلة تحيط بها الحدائق وفيه قصور السفراء ورجال السياسة.
في المدينة صخب ليل نهار.
في النهار كان ابناؤها جميعًا في الشوارع على أن لا زحمة في طرقاتها حتى في ساعات الكرقات.
لم تقع عيننا على شرطة سير وعلامات السير قليلة في ما عدا التي تدل على الاتجاهات.
اما في الليل فإن قسمًا منها وبعضًا من أبنائها لا يعرفان النوم.
بعض الملاهي تعمل حتى الصباح الباكر.
تناولنا طعام العشاء بدعوة من وزير التجارة، في كاباريه تعمل حتى الصباح.
في باطنها كازينو للقمار غير مرخص به. له حكاية سأعود إليها.
ثم انتقلنا إلى كاباريه ثانية وغادرناها عند الصباح. تعمل حتى الصباح أيضًا.
مثلهما عشرات من مختلف اتجاهات المدينة التي عدد سكانها مليونان يزيدان في النهار وفي الليل لا ينقصان. يبقى أن فنادقها من الصنف الرديء. فنادق فورموزا أفضل منها وهي احدث فرشًا وأكثر ترتيبًا.
اما الفندق الذي نحن فيه وهو أحسنها، فمن الصنف الثالث. وقد يكون من درجة "الريجينت اوتيل في بيروت".
حكاية الكازينو
ما إن فرغنا من العشاء عند منتصف الليل حتى دعانا الوزير إلى الكازينو قائلاً: "تعالوا معي تفرجوا على كازينو لعب القمار... وهو ممنوع".
فشبه لنا اننا لم نفهم. دخلنا فإذا على الباب رجل غليظ البنية. فوق الربعة قليلاً، انيق. إنه صاحب الكازينو. فقد عرفنا إليه الوزير. فسار الوزير وسرنا بين الطاولات الخضراء ولاعبين بالمئات.
- القمار مسموح فيبلادكم؟
- لا أجاب الرجل ولكن اللعب لا يهدأ.
وإذا أمام كل واحد منا ترسم علامة استفخام.
كيف أن القمار ممنوع واللعب مباح؟ وكيف ان وزيرًا مسؤولاً يبرع بإرشادنا إلى مكان الكازينو ويدخل معنا ويعرفنا إلى أصحابه؟
ثم يظل اللعب جاريًا ليلة ذاك وكل ليلة بعدها.
رحم الله لبنان... إنه لم يخترع شيئًا قبل كازينو المعاملتين وبعده.
على ذكر الحبيب
وعلى ذكر القمار الممنوع رسميًا المباح عمليًا، وقد يكون للاستفادة من الحصر. قال لي كثيرون من أبناء الجالية إن النظام الذي يناسب البلاد ويكفل ازدهارها هو نظام الاقتصاد الحر وقد صار ذلك ثابتًا لدى المسؤولين والشعب سواء بسواء. غير ان المجلس يحول دون اعتماده والحكومة تذعن. والسبب في ذلك ان غجازات التصدير والاستيراد التي لا تعطى إلا بواسطة نائب او نافذ هي مصدر دخل لهم جميعًا. ولكل واحد من أبناء الجالية شفيع من النواب والشيوخ والوزراء. التقينا معظمهم في الحفلات التي دعينا إليها.
جالية، وقنصل، وسفير
المغتربون في الفيليبين لبنانيون وسوريون وفلسطينيون وأتراك عرب وكلهم لا يزيد عددهم على الخمسمئة نسمة، رجالهم ونساءهم وأطفالهم. بعض هؤلاء مولود في الجزيرة. يعرفون العربية بالممارسة ولكنهم لا ينقلونها إلى أبنائهم الذين كانوا في استقبالنا خليط من هؤلاء جميعًا.
كلهم على حسن علاقة مع قنصل لبنان بطرس عواد. أثرياء الجالية اثنان واحد من بيت اسمعيل متزوج إلى سيدة من كفرشيما من بيت الهاشم. توفاهما الله إليه عن عائلة ما زالت تحافظ على مركزها المادي والاجتماعي. وىخر من آل عوض. أصله البعيد من بيت معلوف زحلة. نزح جده الأبعد إلى حمص حيث سمي عوض. نرح والده إلى الفليبين وقد أثرى الإبن من الحرب الاخيرة. أما الإسماعيليون فلم نتعرف غليهم واما عوض فقد حضر جميع الاحتفالات التي أقيمت على شرف الوفد. وأحيا ليلة وداعية على شرفنا في دارته الحلوة في حي الزوات وهي ملكه ويجيء بعدهما حليم كنعان من كفرشيما وجوزف كيروز من بشري وكلاهما يعملان خارج المدينة.
للبنانيين قنصل فخري.
اما السوريون فقد عينت من اجلهم الجمهورية العربية المتحدة سفارة محشوة بصغار الموظفين يتعهدون أمور أبناء الجالية كبارًا وصغارًا. وقد دعا السفير إلى الحفلة التي دعا إليها قنصل لبنان في فندق مانيلا. فتحدثنا إليه وحدثنا عنه كثيرًا. فإذا ما كنت قد اثرته، يا أخي رشدي، في في الجريدة بصدد المهاجرين العرب يكاد يكون صحيحًا . في الفيليبين على الأقل.
زيارة بعض الرسميين والانتخابات
بعد أشهر قليلة موعد الانتخابات النيابية في الفيليبين والانتخابات الرئاسية. ويقال: إن الدعاية الانتخابية بدأت على أشدها في الأرياف غير أننا لم نر لها أثر في اسواق المدينة اللهم إلا ذاك الحشد الغفير الذي شهدناه في قاعة رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب عندما زرناهما في مكتبهما مما اعاد غلى أذهاننا صبري بك حماة وجماعة الهرمل.
يبدو أن للانتخابات نتائج حاسمة. فالرئيس الناجح يجيء وربعه ليجلس في مكان الرئيس السابق وربعه. لان رجال الحكم في الفريقين حزمة من الرجال ينجحون معًا أو يسقطون معًا والناجح منهم يحكم البلد على ما يرى ويريد ويناسب جماعته. البلد للمنتصر أما المعارضة فلا حظ لها من الحكم والحاكمين.
معلومات – مشاهدات – وانطباعات
يبدو ان البحر على أقدام حزر الفيليبين هو أعمق بحر.
يقال إن عدد جزر الفيليبين يزيد على الألف جزيرة وأن نحوًا من ستمائة جزيرة آهلة بالسكان.
تلقينا دعوة من أحد اللبنانيين المقيمين في إحدى هذه الجزر تبعد ثلاث ساعات بالطائرة عن مانيلا ويملك هو نصفها. مقامه فيها كملك.
عدد سكان الجزر الفيليبينية نحو من ثلاثين مليون نسمة.
الجالية الصينية في الفيليبين أكبر جالية . ثروة البلاد في يدهم. نفوذهم فيها كبير.
الجالية الإسرائيلية فيها أكثر عددًا من الجالية اللبنانية ولإسرائيل في الفيليبين سفير وافر النشاط. يظل على نزال وسفير العربية المتحدة وقنصل لبنان.
النقد الفيليبيني يوازي النقد اللبناني بالنسبة للدولار الاميركي ولكن العيشة غالية. خاصة الأشياء المستوردة بالنسبة إلى الضرائب الفاحشة.
الجالية هنا أفسام. لا بالنسبة إلى الأحزاب فهي لا تهمهم كثيرًا ولكن بالنسبة إلى أشيائهم الداخلية. وقد يكون القنصل من أشيائهم الداخلية.
ينظر المسؤولون الذين تسنى لنا الاحتكاك بهم إلى الجالية الاجنبية نظرة لا رضى فيها. يعتبرون أنهم يمتصون خيرات البلاد ويتركون أبناءها فقرا. قلت لأحدهم إن هؤلاء الغرباء صاروا من البلاد أولاً وصاروا أجزءًا لا يتجزأ من حركة اقتصادها. فن هم أخلوا قدمًا فكل شيء قد اختل. وقد لفت نظر أبناء جاليتنا إلى هذا. فإذا كلهم كان يشعر به. وبعضهم أخذ الحيطة للمفاجآت المزعجة.