هونولولو مدينة التصابي واللهو العابث اكثر منها مدينة العاشقين
العصافير هنا أكلت معنا وشربت في وعاء واحد
الرسالة السادسة من الأستاذ إدوار حنين يتحدث فيها عن جزر هاواي التي لا تخلو كسابقاتها من الملاحظات الطريفة المسجلة بأسلوب أدبي مبدع، رفع فيها إدوار خنين على حد قول سعيد عقل أدب الرحلات إلى مستوى لا عهد لنا به منذ أمين الريحاني.
أخي رشدي
سبحان الله!! قارورة الحسن في يدي كم فيها من جمالات!! كلما وقعت على زاوية حلوة من زوايا الأرض قلت في نفسي: هنا سكب الله ثمالة قارورة الحسن فنفد منها الجمال. ثم أمشي فإذا الحسن يهود. فيتألق من جيد كأن الأيادي التي تسكب سبحانها تغرف من بحر. او هي تمسح كفها في الأرض فيسيل الجمال حيثما تسيل.
بيد أن لبنان يبقى الرقعة المختارة لانه يزاوج بين الحلاوات جميعًا. وحده إلى الآن على كثرة ما رأيت يطلق يد البحر في جباله فيتناغم الماء والحجر على أحسن ما يكون التناغم في أنشودة الخلق. وحده، إذا ما طوفت في انحائه، يوفر لك على كل منعطف منظرًا كأن الأرض تخلق معه من جديد.
وحده يعطيك المناخين : المناخ البحري والمناخ الجبلي على أروع ما تكون مناخات الجبال.
ثم وحده تستطيع أن تجمعه في قمقم ليبقى إلى آخر الدهر روعة أمام عينك.
بين هونولولو وجونيه
في اواسط الاوقيانوس الهادئ على ثماني ساعات من طوكيو سرعة الجيب وأربع من سان فرنسيسكو في قلب الزرقة الهائمة تقع أرض عائمة هي هاواي وجاراتها الخمس.
اما هونولولو عاصمة الولاية الجديدة (صار انضمام ولاية هاواي التاسعة والأربعين إلى الولايات المتحدة الأميركية في أواخر السنة 1959) وليست هاواي كبيرة جزائر الأرخبيل. إن هي في واحدة ليست أكبرها حجمًا.
تقع المدينة في شطآن الجزيرة إلى الشمال (هذا إذا كانت الأرض هنا تدور "دورتها العادية التي ألفناها في لبنان").
في جنوبي المدينة تلال متراكمة خضراء امتد إليها العمران في السنين الأخيرة. غنها أقرب ما يكون موقعًا ولون، أرض وبناء، إلى جونيه. على أن رقعة أرضها الساحلية أكثر اتساعها وتلالها أقل رفعة.
في مكان الكازينو في المعاملتين بالنسبة إلى المدينة "بيرهاربير" وقد اعتزمنا زيارتها غدًا إن شاء الله.
ككل مدينة على الأرض تجد هونولولو موزعة إلى أحياء: الحي الجامعي بين التلال إلى الجنوب. الحي التجاري في شرقي المدينة. أحياء المترفين، ما يشبه اليرزة والزيتونة معًا في الشطآن الشمالية. أما الأحياء الشعبية فبين هذه جميعًا.
شهرة هاواي تقوم على هونولولو. شهرة هونولولو تقوم على أحياء المترفين ومن دونها جميعًا WAIKIKI
حيث المسابح والكاباريهات والفنادق والمطاعم وأصوات البيع. والفندق الذي نحن فيه. و"كاهالا" حيث دارات الأثرياء تحيط بها الحدائق، وتظللها الأشجار الوارقة وقد لفت نظرنا اسم هذا الحي الأخير الذي يلفظ ويكتب كما يلفظ إسم الكحالة في لبنان. القرية الباسلة على طريق الجبل تحت عاليه. ولم يقل لنا الدليل ماذا تعني الكلمة إذا كان لهذه الكلمة من معنى عندهمز
النساء شبه عاريات.
أحياء الترف في هاواي تعيش على نمط واحد. فالزي الرسميهو زي البحر. وتجد النساء بما يشبه العري من حد "البيكيني" ثوب أمنا حواء غلى حد الشورت يليه المغالون في الترصن.وتجد الرجال في مثل هذا ومعظمهم حفاة في مثل هذه الملابس يدخلون إلى الفنادق والمطاعم والملاهي ويتمخترون في المحلات التجارية والحدائق والساحات والشوارع. ومن لا يحب العري من النساء يرتدين إما فستانًا مشطورًا من الجانبين حتى الفخذ. وإما رداء يصل حتى البطتين بمثابة قميص النوم عند اللبنانيين.
حتى أن بعض المطاعم في تفتيشها عن الطريق تفرض على الصبايا اللواتي يقمن بالخدمة فيها أن يرتدين رداء شبيهًا برداء السهرة التي للسيدات المحتشمات، يستر الصدر حتى العنق، والأذراع حتى المعصمين، والأرجل حتى الكاحلين.
يقع اختيار أصحاب هذه المحال على الفتيات الممشوقات القوام، المخصورات خصرًا لطيفًا المتقصفات من الدلال.
هنا قنطار اللحم بدرهم. ليس أرخص من اللحم البشري على هذه الشطآن.
تفرح إن رأيت صدرًا وختبئًا وراء رقعة او فخذًا يلفه قماش.
كأن المدينة في عرس للجسد دائم الميلاد.
مثل هذا رأيته في مكان واحد. في كابري الجزيرة الحلوة قبالة نابولي في إيطاليا.
غير ان الاستمتاع بالشمس والهواء والماء هناك أكثر اناقة وأرهف تحصيلاً والناس هناك أشد أشد استرخاء في التلذذ كأن على كل واحد في كاباريه أن لا يدع نسمة تمر دون أن يقطف منها شذى، او شعاعًا يلتمع دون ان يجتني منه لذعة، او موجة تفش دون ان يصيبه منها رذاذا. أما أنا فهلع وفجع.
مدينة التصابي
رواد المدينة اميركيون على الغالب. حتى أن أبناءها أميركيون. أبناء البلاد والسياح الاجانب قلة معدودة فيها. السواد الأعظم من الناس هنا، زواج تقادم عليهم الزمن جاؤوا ينشدون الحب الغابر، او يودعون آخر مرحلة من مراحل الحب. وسيدات طاعنات في السن او غير طاعنات من اللواتي غاص في وجوههن الجمال يبعث بهم أزواجهن أو عشاقهن إلى هونولولو ليخلو لهم الجو في مقامهم اما الفتيات فاندر من الكبريت الأبيض، واندر منهم الشباب. غير أن الفتيان والفتيات كثرة. فباتت المدينة هكذا، مدينة التصابي واللهو العابر اكثر مما هي مدينة العاشقين. والمتصابون يحيون ملء أشداقهم مما لم يبرح لهم، أو لم ينفذ بكامله بعد. اما العابثون فكالخطف من الطير يدوخون المدينة ولحمهم لا يؤكلزز من هنا تدرك تمامًا أي جشع وأي شراهو مخيم على أهل المدينة.
مشاهد وخواطر وانطباعات
قارب أن ينتصف الليل وأنا أغازل النجوم من عن شرفة غرفتي المطلة على التلال والشطآن وقسم كبير من المدينة في آن أحد. منذ ان غادرت لبنان لم أر السماءالصافية ولم يلتمع نجم أمام عيني. وقد أعادتهما لي هاواي على أحسن حال. ليس في المدينة مداخن تعكّر صفاء الفضاء. غير أن بضع ناطحات السحاب نبتت في المدينة على يد الأميركيين تحجب التلال والشطآن من هنا وهنا. إنها تنطح العين قبل أن تنطح السماء.
وغني في الطابق الحادي عشر لواحدة منها. ولولا هذه الناطحات لما وجدت بناء من طابقين. إذ الميل هنا لطابق واحد. وهو بناء يبنى ليؤجر في الأحياء الأنيقة كما تؤجر الشاليهات على شاطئ الجناح في السان سيمون والسان ميشال واخواتهما. ومنها ما يؤجر بالأسبوع الواحد وبالشهر الواحد فيتوالى عشرات المستأجرين على البيت الواحد في السنة الواحدة التي كلّها ربيع.
على بضع خطوات من الفندق مرفأ طبيعي متواضع كالمرافئ الفينيقية في جبيل وصيدا وصور والبترون يعج بالمراكب الشراعية والبخارية. إنها يخوت المترفين والهواة ترابض على شاطئ المدينة ويلزمها أصحابها فيأكلون فيها وينامون فتخف هكذا الزحمة على الفنادق والمنازل المعدّة للتأجير على مدوات قصيرة.
العراء أو شبه العراء هو قاعدة الساعين بالسيارات في قلب المدينة. فعلى نحو ما يجبه الناس الفنادق والمطاعم والمقاهي، عراة حفاة. هكذا يطلعون عليهم من وراء سياراتهم. قلما ترى قميصًا على سائق سيارة خاصة او على جار ذاك السائق. فتوة مجنونة.
عادت تطالعني القناديل المعلقة عاليًا في التلال التي تطل على المدينة. كأنها قناديل عالية بالنسبة لبيتي في حرج الصنوبر على الوروار. إنها تؤنس وحشتي.
اليوم أكلت معنا العصافير في مطعم الفتنة والياسمين. إنها هنا أليفة الإنسان. تأكل وتشرب معه من وعاء واحد. رأيت ذلك قبلاً ولكن من فرد. اما هنا فإنها جماعة. بل جماعات. لأن العصافير التي أكلت معنا اليوم لم تكن من جنس واحد. بينها طائر في ألوان الحساسين. رأسه ريش أحمر. في ثوبه أصفر وأزرق بحري. كان أوفرها إنسًا وإلفة. لكنه صامت على تمتمة ناعمة.
عند الصباح صحوت على شدو شحرور. شحرور من لبنان لأنه يتكلم لغة الشحارير اللبنانية. هي هي اللغة التي يتحدث إلي بها شحرور الصنوبر في الربوة الخضراء على كتف الغدير . غير ان شحرور هاواي اصطحب معه جوقة من غير الشحارير ترد على فراره. فإذا الزقزقة ملء الصباح الطالع.
وقد يكون هذا وحماية للشحرور وصحبه، ذات سلطات المدنية أن تمنع قلع الشجرة مهما كان نوعها حتى في اغراض البلاد. باتت الشجرة الهاواوية لا تقطع. اما البناء فليداور جزعها ما شاء.
ثم غن سلطات المدينة أنشأت قانونًا لحماية التلال. بعد اليوم ، على ما قال لنا عليم، لن يقوم على أرض هونولولو بناء شامخ لكي لا يحجب شموخ التلال. والهواويون حريصون على أن يجملوا بصورة واحدة شطآنهم وتلة جرداء تقوم على الشاطئ. أما التلال الخضر فبعيدة عنه بعد الحازمية عن الجناح في شاطئ المتن الجنوبي.
ولكن لولا هذه الناطحة الوقحة التي تحملني على كف يدها الىن ما كنت رأيت ما رأيت.
قديمًا... قديمًا – تقول الهواوية الذكية الحسناء – التي ألحقتها بنا سلطات المدينة – كانت هنا مسارح القطعان. ودلت على أجمل ما في المدينة من الأحياء. – هنا كنا نلعب، صغارًا، وعند هذا الظل كنا ننام ونغفو. هناك كنا نستحم ونسبح. غدواتنا هنا وعشياتنا هناك. ومرّ شيء في عينيها كأنه الكآبة وكسفت جبينها غمامة لعلها الحزن. لقد فهمتها كما أفهم نفسي لأن في نفسي مثل هذه الكآبة. حيث ربيت في بيت جدي لامي، مطارح كنا نضرب فيها الخيام، على رمال الأبيض المتوسط. عند شق العجوز. هناك كنا نلعب ونأكل "عروسة" العصر بعد أن نستحم. هناك كان يجلس جدّي وصحبه في العشايات، واجلس انا في ظله. ثم هناك كانت تقصد امي عندما كانت تقيم من نفسها ناطورًا علي وعلى رفاقي لئلا نعبر في الرمال على حرقة الشمس ولئلا نبعد في المياه غن نحن عبرنا.
وقد فهمتها كما أفهم نفسي.
ولبستني إلى حين حال روحها.
- من أي وقت كان ذلك يا حلوتي؟
- منذ ما يزيد على السبع سنين.
- أصبت قبلك بمثل هذا منذ عشرين من السنين وكنت أذكر المطار .
فمنذ سبع سنين لم تكن المدينة، لم تكن أحياء الترف في المدينة.
منذ سبع سنين ولد الصخب في هونولولو وقد كانت قبل ذاك المدينة التي غناها المغنون ونسبت إليها الألوان.
هذه السرعة الأسطورية تجدها في امتداد المدينة إلى التلال.
منذ سبع سنين ، تقول حلوتي السمرا، لم تكن هذه القناديل المعلقة فوق التلال.
وفي السنة الماضية لم تكن هذه السوق.
ومرت بنا في السوق فإذا هي مدينة في المدينة قامت هبة واحدة فغطت وجه الأرض. ومع ذلك ما زال بناء المدينة الأصليون يفترشون الأرض فيق العشب الأخضر. عند ظل الدوح للأكل والاستراحة، واطفالهم معهم يغطون فين وم عميق.
يا ملهمة المغنين وموحية اللون الأظرف إلى هنا وكفى. غدك، إن لم يكن لك حد، غد الكبيرات التي تشمخ فلا تحد.
مقابر الأبطال
بين هضبتين خضراوين، بين الحدائق والزهور قصور ودور هي جامعة هاواي. يغدو إليها الطلاب من جميع انحاء العالم. ويصعب ان تحب جامعة على الأرض أكثر مما يمكن أن تحب هذه الجامعة.
على هضبة الشمال مقابر الملوك من حول كنيسة متواضعة حلوة، يتصدرها صليب بروتستانتي. وفي رأس الهضبة مقابر الأبطال الذين قضوا نحبهم في معركة بيرهربور. حقل من الحجارة منقوش عليها أسماء الخالدين. يظلها صليب في بناء شامخ ما زال يتكامل ليليق أن يكون مقام الجندي المجهول.
من رأس الهضبة تطلع على المدينة فترى كيف جرى البحر جريًا في قنوات إلى قلبها، وترى كيف أفسح البحر في قلبه لأذرع المدينة تمتد بعيدًا فيه. وترى كيف تمتد وتنمو في جميع اطرافها. ثم ترى في البعيد ناطحات السحاب تنطح صدرك قبل أن تنطح كبد السماء.
جوزة الهند
ما كنت لأعرف قبل اليوم ان جوز الهند يطلع في شجرة تعلو علو النخيل عندنا.
ما زلت أسائل نفسي حقًا أهي جوزة الهند هذه؟!
معرض الأسماك
بين أشاء المدينة التي رأيناها لونابرك وحديقة للحيوان ومعرض أسماك.
اما لونابرك المدينة فزاوية من لونابرك التي رأينا في طوكيو. وأما حديقة الحيوان فذميمة.
يبقى معرض الأسماك فهو رائع.
غنها أسماك اوقيانوس الهندي على انواعها بين مستطيل لحد أكبر الواحد ومستدير كالدولاب وبين رقيق كالورق وسميك كالخنزير. غير ان الطرفة في هذه الأسماك ألوانها.
كنت احسب ان الرسامين ومروجي الأزياء يرجعون، في تزويج الألوان إلى الزهور والفراشات والطيور، فصرت اعتقد اليوم انهم على خطأ يكونون إذا تجاوزوا ألوان الأسماك في هذا المحيط الهادئ.
ولا أدري إذا قدرت أكبر غابات الأرض ان تعطي مثل هذه الألوان وأنصافها وأرباعها والدقيق منها...
الأكل ... بالدو
في المطاعم الناس ينتظرون دورهم لياكلوا، فيمروا في فترة انتظار قاعدين او واقفين إلى أن تاتي في دعوتهم المضيفة.
هكذا كل أيام السنة.
الشعب الملك
قصر الملك صار بيت الأمة، فقد أسلم إلى النواب يجلسون فيه. لقد عاد الشعب ملكًا.
قبالة قصر الملك كنيسة وبيت. تقول رفيقتنا الهواوية الحسناء إن هذه الكنيسة هي اعتق كنيسة في هونولولو.وهذه أعتق دار. وتنظر كأن العمار قد بقي معلقة الطين عن بنائها أمس.
انتحار ثري
في حي الأثرياء بالكهالة، دارة أروع دارة. إنها لثري هنا. تقول الحسناء انتحر أمس في سان فرنسيسكو.
لقد أعادنا هذا النبأ الأخير إلى أنفسنا.
السعادة تنبع من الداخل ولو عاش القوم مغمورين بين الجاه والمال.
- أهي النهاية يا اختنا؟
- نعم. نهاية المطاف في المدينة.
- ونهاية الحياة؟!
- هذه يقولها الوعاظ في الكنيسة.
وأشارت إلى كنيسة حبلى بالمصلين.
انقضى الليل إلا أقلّه وأصداء المدينة أنغام عزف وغناء. إنها ليلة أحد.
ترى الناس يستقبلون فجر الأسبوع الطالع بالعزف والغناء.
هل ترى كل فجر عندهم فجر أسبوع طالع؟...
أهمي اللهم، هناء على النفس.
لعل قطب العبوس تتفتق في حياة الذين يضربون على أعصاب العالم.
لقاء على الهاتف مع لبنانية
ألفرد شاهين صاحب محل تجاري هو قبلة الانتظار في السوق التجارية التي في حي المترفين في هونولولو.
- ألعلّه لبناني؟
- إن اسمه لبناني.
قلنا هذا في طريقنا إلى رأس الجبل.
عندما عدنا في المساء أخذنا التلفون وطلبنا منزل ألفرد شاهين. فإذا امه تتكلم عربية صحيحة سليمة اللفظ.
فعرفنا انها من بيت الحاج من بيروت. تزوجت إلى شاب من بيت شاهين من العربية ينتسب إلى بيت الأسمر ورزق الله. وإنها جاءت إلى أميركا وما برحت فيها.
ولا تعرف لبنان أو تعرف احدًا من أبنائه.
وإن ابنها لا يعرف العربية وقد كان في قربها يسمع.