إدوار حنين يكتب من اليابان
اليابانيات يساعدن الرجال على خلع ملابسهم
ليالي الغيشة هي من ليالي العمر في طوكيو
نقدّم فيما يلي الرسالة الخامسة للنائب الأستاذ إدوار حنين التي يعرض فيها لانطباعاته عن اليابان.
وهي رسالة تضم ملاحظات طريفة ودقيقة تشمل نواح شتّى عن مظاهرا لحياة فيبلاد الشمس المشرقة...
وبوسع القارئ ان يكون فكرة شاملة عنها وهو يتابع عرض شريط الأستاذ حنين.
للمرة العاشرة أهم بالكتابة إليك في طوكيو فأتهيب وأعدل.
وكلما عدت إلى الكتابة عدت امتدح نفسي لأني تهيبت فعدلت.
لان بين العزم والعدول أشياء كثيرة تكون قد توضحت في خاطرتي وأشياء كثيرة اخرى تكون قد وثبت إلي جديدًا.
غير اني بين هذا وذاك لا أعرف أين أبدأ وأين انتهي وكيف سيكون تسلسل الكلام وسياقه.
اليس القصد أن أكون لك كيف وجدت طوكيو وكيف وجدتني فيها؟
طوكيو: مدينة التنافر المتجاذب.
لقد مررت في نيويورك وباريس وروما واسطنبول وعشرات المدن الكبرى في العالم. فلم تكن الواحدة تشبه أختها إلا بنسبة ما يشبه غنسان إنسانًا.
اما طوكيو فتشبه هذه الدائن جميعًا ولا تشبه واحدة منها طوكيو.
إن فيها من نيويورك وباريس وروما واسطنبول وليس في هذه شيء من طوكيو.
ذلك أن كل ما أخذته هذه المدينة من المدائن، كل ما يمكن ان تأخذه، يضيع في رحابها.
وكل ما هو غريب عنها يصبح منها.
فهي مدينة التنافر المتجاذب.
في صورة فوتوغرافية، جزئية او شاملة، نعرف باريس من تناسق شوارعها وبنائها وتقاطيع قرميدها!
ونعرف نيويورك من شوامخها وناطحات سحابها.
ونعرف اسطنبول من بوسفورها ومآذنها وقبابها التي تظل قصورها وبيوتها.
وتعرف روما مت تلالها السبع والخرائب الألف تعاند الدمار والزمن البائد.
أما في صورة فوتوغرافية فلا تعرف طوكيو.
وجهها مخبوء وراء مرآياتها.
هنا شامخات بنائها وهنا البناء الوضيع.
هنا الجادات الطويلة والوسيعة وهنا الازقة والزواريب.
هنا الحديث الاحدث في العمارة وهنا الروماني والفرعوني والإغريقي.
وهنا الاكواخ والبيوت من الخشب، وهناك الحائر الذاهل في حيرته.
ونرى في الوجوه إلى جانب الاميركي والأوروبي والمشرقي والصيني والياباني الوجوه الخليطة من كل هذا معًا وهي روعة في الوجود.
ناهيك عن المطاعم والمطابخ والمقاهي والملاهي التي فيها من كل أزياء الأرض وطعامها ونسائها وأساليبها.
فأين هي طوكيو القديمة التي تهدمت في الحرب من كل هذا! وماذا تكون طوكيو إن لم تكن كل هذا التنافر الذي يجذب بعضه البعض الىخر فيتآلف في السمة وينصهر في العظمة التي تأبى عليك أن تنظر في التفاصيل.
ألا ترى نفسك مشدودًا إلى الكل، ماخوذًا بهذا الكل، ومندهشًا عنده؟
طوكيو: شيخة المدائن
صحيح أننا دخلنا المدينة تحت جنح الليل التي لم يتح لنا رؤية شاملة لمجمل أنحاء المدينة. بيد أن الليل كان صافيًا وكانت الانوار تتلألأ من تحتنا ألف لون ولون، مكدسة هنا منفرجة هناك، على مدوات لم نر مثلها لمثلها.
ثم طلع النهار فطلعنا على المدينة من شاهق فيها.
وجبنا شوارعها وحاولنا أن نقطع احياءها من الحد إلى الحد.
وتجولنا في جنباتها، فإذا هي مدينة تتسع في الأرض وفي الفضاء معًا.
تمتد زاحفة "في مكان" وتعتد متعالية في آخر حتى تسائل نفسك: أغدًا أم بعد غد ستصبح هذه المدينة بيتًا لعشرين مليون نسمة وهي تخيم اليوم على نصفهم فلا هي تضيق بهم صدرًا ولا هم يشتكون من الضيق.
قلب المدينة وبيت القصيد
والغريب من هذه المدينة التي هي أوسع رقعة من أي مدينة اخرى ان لها ألف قلب وقلب.
هذا الذي تعودنا ان نسميه قلب المدينة لا تجد له أثرًا في طوكيو. كل شارع من شوارعها قلب المدينة. إذ في كل شارع من المطاعم والمقاهي والبارات والسينماوات والمحال التجارية وزحمة الناس ما يحملك على الاعتقاد أنك في قلب المدينة.
لقد ضاع قلب المدينة في طوكيو كما ضاع في الشعر بيت القصيد.
ولعمري لا تكون المدينة مدينة إلا إذا كانت قلبًا كلها.
كما لا يكون الشعر شعرًا إلا إذا كان كل بيت بيت القصيد في القصيد الواحد.
طوكيو: مناخ روحي يطابق مناخ أنفسنا
على هذا التتنافر العجيب، على فارق اللغة والجنس، وعلى سعتها وبعدها، لقد طابق مناخ طوكيو الروحي والحياتي المناخ الذي أرغب وأرتاح إليه.
وقد يكون المساعد في ذلك ان كلنا في الأصل شرق.
إن زحمة الناس فيها لا تزعج الناس.
غن صوت الضجة خافت.
إن المتفرج فيها مأخوذ فيما يرى. اما الأصيل فمتزن الحركات، حلو التصرف، هادئ الطبع، بعيد عن الإزعاج.
وقد يكون المساعد في ذلك أن كل ما فيها يشغل "حشرية" الإنسان، يمد لخياله في التصور، يلهي فضوله، سيحمله على التساؤل، يزيده رغبة في الاكثر، والأكثر لا يتخمه، يعيده طفلاً إذ كل ما يرى جديد، ثم هو يرى الجديد ويستزيد، فيتلهى عما يضج ويزعج.
تركيب فائق وغزل البنات
كنت أذهب في الظن، قبل أن عرفت الصين واليابان، معرفة سائح، ولكنها معرفة من رأى على كل حال أن هذه الشعوب – وهي خمس سكان الأرض – مكدسة أكداسًا، وأن أبناءها مصكوكون صك النقد الواحد، أو هم كالدمى صنع معمل في "استوتغرت" تنطلق من قالب واحد... كنت أذهب في الظن هذا المذهب الخاطئ حتى جئت ورأيت فإذا الإنسان إنسانًا حيثما كان.
أبدًا كثير التنوع، غني بمواهبه، عظيم بمفارقاته، غزير بشخصيته المميزة.
وجوههم – النساء خاصة – أكثر دقة في التكوين من وجوه البيض.
خطوط متناهية في النعومة.
ملامح بعيدة في التنوع،
تفاصيل في الجبهة والذثن،
ملامح هذا الشعب
طبيعي اننا لم نغادر طوكيو إلى الريف ولم نتغلغل في اواسط الشعب.
حتى الشعب الذي وقعت عيننا عليه لا نستطيع ان ندخل إلى قلبه.
فهو يجهل ما نعرفه من لغات ونحن نجعل لغته.
طبيعي، والحلة هذه أن تكون ملامح هذا الشعب كما رأيتها انا، في سطحية الملامح التي تعطيها عين الكاميرا – ألة التصوير – عندما تنقل من الحياة إلى الورق أشخاصًا وأشياء.
ونعلم، يا أخي رشدي، أنني أكتب إليك احاسيس، فقد تكون خاطئة وقد لا تكون، وهي إن أصابت فلا أنا أزعم لها ولا أنت تقبل أن تجيء بدقة الدروس، إذ الدرس ليس من شأن المسافر.
ولم يكن على كل حال من شأن إبن بطوطة، في أسفاره رحمة الله عليه، وقد أدرك الصين، وبعض الصينيين يعرف ذلك.
وقد رووا لنا من اخبار أخباره ما يعجب.
اليابانيون كالصينيين دون الربعة إجمالاً.
أعداء السمنة على الغالب.
نحن الذين ربينا على معرفة قبضايات القرى والأحياء عندنا نستغرب أن تلجأ البطولة إلى مثل هذه الهياكل.
كأن البطولة هنا لا ترغب في الإعلان عن نفسها.
او كأنها عندنا تلجأ إلى الإعلان الكاذب.
إذ ليس من الضروري على ما رأيت، أن يكون البطل في اليابان متلبسًا جسر الأمير مجيد، أو ابن عفيف او غيرهما من الذين نعرف.
على أن هذا الشعب شعب بطل.
وهي بطولة مجازفة.
فهم ينمّون في أبنائهم روح المغامرة.
حتى ان ألعاب اللونابارك في اليابان تختلف عن ألعاب اللونابارك التي شاهدناها إلى اليوم في خارج اليابان.
هناك تسلي وتدهش وتأرجح وتدغدغ
وهنا تربي شعور المجازفة والمغامرة والإقدام لكثرة ما فيها من المخاطرة والاخطار.
وقد رأيت على باب برج يتهافت الناس عليه تصاوير وصفت هناك للتشويق أو توق الناس بمثلها حيثما كان من العالم لأبوا الدخول في ذاك البرج.
وهذه التصاوير تدلل على ان المتفرج على أشياء هذا البرج مشارك في أشيائه.
يقف الداخل إليه على اسطوانة تدور بسرعة فائقة ثم تأخذ قدماه تعلو عن الأرض شيئًا فشيئًا حتى يكاد يصل إلى آخر الجدار المستدير المركز على الاسطوانة.
وتظل الإسطوانة تدور فمن لا تكون له قدمان ثابتتان ينثر في الفضاء ليقع شكًا على رأسه ويدوّخ الجميع.
كل ذلك، بين الضحك والبهجة والسرور.
ثلاثة كانوا في صفوف المتفرجين غير المشاركين: لبنانيان وأوروبي في جنبها.
ولا يتهافت الصبية والشباب إلا على الالعاب التي تغلب فيها المفاجآت الخطرة والتحسس القوي لما هو فوق المألوف.
وأكثر ما يلفت النظر في هذا الشعب البطل انه يبالغ في الإنحناءات إن سلّم أحدهم أو ودع او جرى تعريفه إلى من لا يعرف.
انحناءة رأس، وانحناءة صدر، وعين لا تجبه العين!!
إنها بعض العجب في نظر قوم يرون في البطولة شموخًا، بل تحديًا، بل فجورًا في التحدي وفي الشموخ.
على أن البطولة موهبة كالجميلات المواهب، وهي ككل موهبة ترتاح إلى التواضع.
لقد أجلسوا هذه الموهبة العظيمة في مكانها الرائع وأبعدوا عنها كل ما يسيء إلى روح البطولة...
سلمت يدهم.
واليابانيون شعب مكد، مجد، ساكت.
لغة تتقلص
من الصين إلى الفيليبين إلى هونكونغ إلى طوكيو لم أقع على واحد يحسن الفرنسية.
أربعة أو خمسة الذين يلمون بها إلمامًا خفيفًا.
كل من يعرف لغة إلى جانب بلاده يعرف الإنكليزية.
من لا يعرف الإنكليزية في هذا القطاع من الأرض يمكن أن يبيت على الطوى لأنه قد لا يجد من يفهم عليه أنه جائع يريد أن يأكل.
وفي السنة الفائتة لم أستطع ان أعثر في إيطاليا الاخت اللاتينية الأولى لفرنسا، على من يتحدث الفرنسية.
الإيطالي الذي يتعلم لغة إلى جانب لغة بلاده يتعلم ما تيسر له من الإنكليزية.
لغة الناس في مطلع القرن لغة القلة في منتصف القرن.
وقد لا تصبح إلا لغة أبنائها في اواخره.
طوكيو مدينة الإعلان التجاري يسعون إليه بكل طريق.
بالأضواء، بالمطبوعات، بالبالونات المجمدة في الفضاء.
على الجدران، على هامات المباني، على السيارات، في قلب الشارع، على علب الكبريت، في المسارح والملاهي، في الورق، في الأقمشة.
على كل شيء وفي كل مكان.
باريس ونيويورك مقصران عن طوكيو في هذا المجال
“Plus je Connais les homes moins je les aime”
في شارع من شوارع طوكيو خطرت بنا فتاة أوروبية او أميركية هيفاء شقراء حلوة الطلعة وسيمة المحيى وكثيرة الأناقة.
كانت تشد وسطها بحزام كتب عليه بالفرنسية وبالحرف المذهب:
“Plus je Connais les homes moins je les aime”
فتقدم الصديق ناظم القادري يتحدث إليها بالفرنسية.
فردت بلطف وبالفرنسية تقول انها تجهلا لفرنسية.
فأشار إلى حزامها فقالت
لا أعرف بالفرنسية غير هذا.
وقد نالت ذلك بفرنسية صافية.
فليس غريبًا أن كانت فرنسية.
Apeu pres
التقينا رجلاً صينيًا يلم بالفرنسية.
دار الحديث بيننا على الأديان .
فدهش عندما عرف أن الدين الإسلامي يجيز للرجل أكثر من إمرأة.
بعدها سأل أحدنا الرجل:
- هل أنت متزوج؟
- نعم.
- من امراة واحدة؟
- تقريبًا.
A peu pres
ثم أغرقنا جميعنا في الضحك.
ليلة الغيشا
من ليالي العمر في طوكيو ليالي الغيشا.
ما أصل الكلمة؟
ماذا تعني بالضبط.
حاولت أن أعرف ولم أفلح.
وليس هذا الذي يهم على كل حال.
في قلب المدينة وأطرافها وضاحيتها، في منازل عادية وغير عادية. وفي حدائق خاصة، "غيشيات" يحيين ليال طريفة حلوة هذا وصف واحدة منها:
وراء الجادة التي يقوم عليها الفندق الذي نزلناه شارع ضيق. سعينا فيه على الأقدام حتى وصلنا إلى مفرق أشد ضيقًا فسلكناه.
بعض خطوات وإذا في ميسرة الزاروب باب من القضبان الخشب شدها الدليل بيسراه ففتحت. ودخلنا.
رواق سقفه أغصان وأرضه بلاط مشطوف تلتمع عليه النظافة، يفضي إلى رواق آخر سقفه من حجر وينتهي بالمدورة العادية حيث تنتظر الرواد شابات جدل خيوط الليف كالمسك الأشقر.
خلعنا أحذيتنا. وانتعل كل واحد منا واحدة منها.
ورحنا نجتاز المماشي أرضها خشب وجدرانها خشب.
ثم تسلقنا سلمًا من خشب اوصلنا إلى غرفة رحبة سعة البهو الكبير في بيوتنا ممدودة بالحصير الناعم مسدول على شبابيكها وأبوابها وبعض حيطانها ستارات من الحرير المزركش ترتقص عليها الأنوار المشعة من قناديل مخبأة ككنوز النجلاء تحت الستائر.
في وسط الغربة إيوان تحيط به سبعة مقاعد. وهو عددنا.
اما المقعد فطراحة على الأرض نصف متر مربع علو المخدة وأرخم.
يحتضنها من اليمين زند من الخشب ولناحية الظهر مسند في إطار من الخشب مربوط إلى الزند لا ينفصلان.
تقعد وتتربع او تمد قدميك تحت الإيوان.
بين المقعد والآخر مكان لواحدة من الفتيات تجلس فيه على الحصير ثم تبدأ الحفلة.
تقدم بطبق صغير منشفة بيضاء مبلولة بالماء الساخن تلهث دخانًا أبيض.
تمسح بها إحدى الغيشيات يديك ووجهك وجبينك. ثم تحمل إلى شفتيك كأسًا فيها سائل مثلج كماءا لزهر.
بعدها تدار الخمور لكل نوع منها نوع من الكؤوس، تارة من زجاج ناعم وتارة من صيني ناعم وتارة من معدن او فخار.
وبين هذه الخمور ما يشرب ساخنًا وما يشرب باردًا.
اما إذا شئت ان تشرك الغيشيات في خمرك فتفرغ الكأس في جرعة واحدة وتغسله في كوب من الماء غطة واحدة، وتعطيه للغيشة التي تريد ان تشركها في شربك، فتبقيه في يدها حتى تملأ لها، فتفرغه، بدورها جرعة واحدة.
فإذا ما غسلته ونقرت عليه بأصبعها واعادته إليك كان عليك أن تشرب من جديد.
وهكذا إلى أن يرى أحد الشاربين وضع الكأس على الإيوان دون غسل ونقر فتهدأ المناوبة إلى حين. ثم تستأنف على طلب الغيشية عادة.
في غضون ذلك تكون قد دارت أطباق الطعام، ألف لون ولون، من اللحوم والأسماك والطيور والخضار والأرز والمرق على أنواعه، فتتناوله الغيشيه بين قضيبين وتدنيه من فمك فتأكل.
اما المرق (الشورباء) فيشرب من الطاس شرب الماء من الأكواب حتى ينفد.
وتظل الأطباق تدار.
أكلت أم لم تأكل حتى ىخر السهرة بعد أربع ساعات من بدئها.
غير أن الوقت ينقضي كالسعادة فلا تفيق إلا وقد انتهى إذ يون قد تخلل الطعام والشراب عزف وغناء ورقص زاوجت التقاليد بين كل لون ولون.
أما العزف فعلى آلات ذات اوتار منها ما يشبه العود عندنا ومنها ما يشبه البزق والكمان.
وأما الرقص ففيه من مشق الزعرورة في لبنان. يغلب عليه الدلال دون هز الأرداف والكتفين. تمثله الغيشيات منفردات بثيابهن اليابانية المزركشة الحلوة حتى كأنهن فراشات الربيع في جوقة الصباح.
عندما يبدأ الرقص تهدأ كل حركة، وتغلق الأفواه، كأن الجميع في صلاة.
للرقص عندهم لون القداسة.
وما إن تنتهي الغيشية من رقصها حتى تعود الحركة سيرتها الأولى: أكل وشرب وضحك وكلام والعاب خفيفة ساحتها الإيوان واللاعبون فيها الغيشيات اللواتي يدعونك لمشاركتهن.
كان تنصب سيكارة كالعمود وتلقي عليها سيكارة أخرى بشكل أفقي. ثم تدعى إلى نسف السيكارة الأفقية دون ان تقع السيكارة العمودية.
او كأن يوضع عود من الثقاب في طرف الإيوان وعود آخر في وضع عمودي في الطرف المقابل.
ثم يقذف العود المنبطح بواسطة علبة الكبريت في اتجاه العود الواقف فيصيب الأول الثاني فيقع وغير هذا الكثير.
وفي ىخر المطاف – وآخر المطاف في يدك – يقف الجميع، وتحلق المقاعد في شكل دائرة، ويتحلق حولها الموجودون، رجل فامرأة، وتعزف إحدى الغيشيات معزوفة رقص، ويدعى الجميع إلى الرقص حول الطراريح، حتى إذا ما انقطع العزف وجب أن يركع كل راقص على الطراحة التي أمامه (الطراريح تنقص واحدة عن عدد الراقصين) فيبقى راقص بدون طراحة فيخرج من الحلقة. وهكذا دواليك ففي كل دورة تنقص الطراريح طراحة وينقص الراقصون راقصًا حتى يبقى التزاحم بين راقصين على طراحة واحدة.
فمن يصيبها يصب النجاح فتسلم إليه العازفة تطاوعه في كل ما يريد.
أربع ساعات لم ينقطع فيها الطعام ولا انقطع الكلام ولا هدات الأنغام.
أربع ساعات لا يفهم واحد من المدعوين على واحدة من الغيشيات ما تقول ولا هي تفهم ما يقول ويظل التفاهم قائمًا على أساس الفهم. حتى ان النكتة كانت تفهم وتفعل.
وأغرب ما في الأمر ان ليالي الغيشيات تمثل تمثيلاً صفحة رائعة من الحياة اليابانية العريقة.
ويظل دائرًا في خلدك انها من الأصالة في مكان رفيع، فلا الشعر بالسأم الذي يتملك بفينيسيا في ليالي الغوندول. وهو السأم المتأتي من إحساسك بأن ليالي الغوندول التي تحيي صفحة من أروع صفحات الحب والجمال والشرق والاستمتاع قد انحطت على يد الغينيين إلى درك التجارة والاستثمار الدنيء.
هنا كسب وهناك كسب.
غير أن هنا مع الكسب روح، أو إجادة في التمثيل توهم بأن الروح لم تمت.
... وبعد فهل سمعت ان عشاء يكلف مئة وعشر ليرات لبنانية على الرجل واحد!!
لقد عدنا الليلة، إلى عشاء جديد مع الغيشيات وذلك بدعوة من السيد كوهنو سفير اليابان في لبنان الذي استدعي حديثًا إلى وظيفة أخرى.
إنه يعرف الفرنسية وزوجته تجيدها.
وقد نقلت إلى الفرنسية قصة يابانية عنوانها السكين Le couteau وهي على ما تقول من روائع الأدب الياباني الحديث.
المراسم التي جرت في عشاء الامس قد عادت هي هي في عشاء الليلة.
مما يعطي الدليل على أنها مدروسة وعلى أنها فن.
بعد المغايرات التي رأينا بين الحفلتين تتعلق بالتفاصيل وخاصة في ألعاب السلوى التي تجري بين شكل من الطعام وآخر.
كان تملأ كأس بالخمرة اليابانية المسخنة ثم تطلب إحدى الغيشيات من الضيف الذي تتعهد ان يزيد على خمر الكأس نقطة دون ان تطفح. فإذا تيسر له ذلك دون ان تطفح صار عليها أن تفعل بدورها وهكذا دوليك حتى يطفح الكأس على يد واحد من المتباريين. (إذ يمكن ان يشترك في اللعبة آخرون) يكون هو الخاسر. وعلى الخاسر آنذاك ان ينكب على شرب ما في الكأس دون ان يترك منه شيئًا وإلا ألزم بشرب كأس آخر.
لعبة اخرى:
تؤخذ كأس فارغة فتلصق على فوهة الكأس ورقة ناعمة كالكلينكس الرفيع مثلاً.
توضع على الورقة قطعة نقد معدنية صغيرة.
تشعل سيجارة وتبدأ الغيشيه بان تشعل السيجارة المشتعلة جانبًا من الورقة.
بين القطعة النقدية وشفة الكأس.
ثم تعطيك السيجارة فتمج منها مجة وتحرق جانبًا آخر
وتعيد إليها السيجارة لتحرق هي بدورها جانبًا آخر.
وهكذا حتى تسقط قطعة النقد في الكأس.
فمن سقطت على يده كان الخاسر والخاسر يلزم على استجابة رفيقته الغيشيه أيًا كان طلبها.
لعبة أخرى:
يعطى إلى الغيشيه لوحة وريشة رسم تغمز باللون الأسود
ويعطى مثلها إلى ضيفها.
فيجلسان في صدر القاعة ويتولى أحد الحاضرين أن يأمر "أرسم الأنف، العين اليمنى، الأذن اليسرى، الفم ألخ...
فيرسم كل منهما الجزء من الرأس الذي أمر برسمه.
وذلك دون أن يى هو بعينه ماذا يفعل.
إذ اللوحة والورقة مدارتان نحو الحضور لا نحو الرسام.
فينتج من هذا أشكال مضحكة حقًا أكثرها توفيقًا يحرز جائزة لصاحبها.
وأكثر الناجحين من الضيوف والغيشيات يفتتحان حفلة الرقص ويكونان المقدمين لكل شيء بعد هذا.
وقد كنت في هذا العشاء إلى جانب السفير وكان في جانبي الآخر شاعر لامع يشغل مركزًا مرموقًا في وزارة الخارجية فطلبت منهما إيضاحات كثيرة لشؤون كثيرة.
وطلبت فيما طلبت إيضاحات حول الغيشيات فعرفت :
أن لفظة "غيشة" لفظة مركبة من كلمتين: أما غي فتعني فن. وأما كلمة شا فتعني إنسان.
فيكون معنى الكلمة إنسان الفن، فنان، فنانة.
كأن تقول غي لغتنا أهل الفن.
قديمًا كانت المرأة اليابانية في العائلات العريقة لا تبدو امام زوار زوجها. وكأن يلزم الرجل في اجتماعاته في ليالي السمر في الولائم والحفلات نسوة يقمن على خدمتهم والاعتناء بهم.
فصارت ربات البيوت يدبرن بعض البنات من بناتهم او أقاربهم على القيام بهذه المهمة فنشأت هكذا طائفة من النساء أطلق عليهن هذا الإسم.
ثم راحت مدارس خاصة تتعهد تعليم الفتيات أصول هذه الخدمة.
بحيث صارت تفرض مواد الدرس التي على أساسها تفرض الامتحانات.
وكان في طليعة هذه المواد العزف والغناء والرقص وتدبير المنزل وتحضير الطعام والشراب وتقديمهما واستقبال الضيوف ألخ...
فباتت هذه المدارس تخرّج الفتيات الغيشيات كما تخرّج مدارس الهندسة والطب والمحاماة المهندسين والأطباء والمحامين.
وباتت لا تؤخذ غيشية لخدمة عائلة إلىإذا كانت حائزة شهادة.
هذه المدارس ما برحت تعمل ولكن الراغبين في هذا الفن قد انحدرت منزلتهم، ومستوى هذا الفن قد تدنى. حتى باتت الغيشيات نوعًا من الفنانات اللواتي تعرف.
منهن من يحافظ على رفعة شرف المهنة ومنهن من انحدر بها إلى أسفل.
وهكذا باتت الغيشيات الأصيلات في منازل العظماء.
ولا يرى رواد طوكيو غير الصنف الثاني منهن.
وقد ساعد على هذا الإنحدار ان المرأة اليابانية خرجت من حجابها وصارت تقوم بنفسها باستقبال ضيوف زوجها وإكرامهم.
حديقة بول كلوديل
سبق أن قلت لك عن سمة حديقة القصر الغمبراطوري وموقعها في مكان رائع في المدينةز
وقد تسنى لي اليوم، أن اطوف في انحائها برفقة السفير الذي تحفظ له كرامة كبرى في بلاده.
مشينا في دروبها ساعتين.
ولو شئنا أن نأتي عليها جميعًا لضاق بنا النهار.
غير أن مشينا في الدروب التي كان يحبها بول كلوديل ويصرف وقت فراغه فيها، إنها، حقًا، من أروع ما في الحدائق: سما وتنوع أرض وغرس.
فيها التلال المفتعلة والدروب المتعرجة والسواقي والجسور والاكواخ والأدراج وأحواض الزهور واسطبلات الخيول والساحات والميادين والبحيرات وبسطات العشب الأخضر والجدران المشقوعة شقعًا من الحجر المقصب الكبير الذي لولا لونه الأسود لكان يشابه بشقعه وحجمه الكبير من حجر القلعة في بعلبك.
أما الزاوية التي كان يقصدها كلوديل ليستريح فأجمل زاوية.
تلة تتعرج فيها طريق صعدية تلة ضيقة تغمرها الممار من كل جانب حتى كأنها نفق من أغصان تنتهي إلى مرجة خضراء تقوم من فوقها دارة حلوة كانت دارة إحدى بنات الإمبراطور التي اخرجت نفسها منها لأنها تزوجت برجل أعمال ليس من الأشراف.
في قلب هذه الحديقة قصر الإمبراطور.
قصر الحكم، قصر الضيافة، قصور أعضاء العائلة المالكة جميعًا، منازل الخدم، الكاراجات، اليواخير، وأكواخ وأبراج في الزوايا الجميلة.
لقد استطعنا أن نرى كل شيء إلا قصر الإمبراطور الذي يزنره حائط شاهق من حجر ودرجات.
عظماء الأرض عندما يقدمون إلى طوكيو ينزلون في قصر الضيافة الذي نزل فيه أيزنهاور وسوكارنو وغيرهما.
وتجرى المقابلات بين الإمبراطور وبينهم في قصر الحكم القائم في متوسط الطريق بين قصر الإمبراطور وقصر الضيافة.
وقد قال الدليل الظريف الذي كان يرافقنا عندما أشار غلى باب القصر من بعيد:
"لا يفتح هذا الباب من الناس سوى الطهاة البارعين والبارعين في الجودو أولئك لتحضير طعام الإمبراطور وهؤلاء لحمايته."
وعندما شاهدت السور العالي فهمت لماذا تقول العامة عندنا عن المتواضع المسكين ان حيطه واط.
هذا القصر حرق في الحرب دون القصور والدور جميعًا المحيطة به.
وغن عمال التعمير أخذوا ببنائه على نسق جديد.
في أثناء تجولنا في حديقة القصر رأينا أسرابًا من القرويات في ثياب العمل الحقلي، أسرابًا داخلة وأسرابًا خارجة.
فقال لنا الدليل:
"إنهن قرويات يتطوعن للعمل في حديقة القصر خدمة للإمبراطور وتبركًا بارضه".
أمجاد المدينة
على مرتفع من أرض المدينة ، ليس بعيدًا من الفندق الذي نحن فيه، وفي جوار بعضها البعض الآخر، مجلس الديانة، المكتبة الوطنية، جامعة القديسة صوفيا والمدينة الرياضية، ونصب قتلى الحرب.
لا أعرف مدينة في العالم مثل هذه المدينة تجمع في ربعة صغيرة من أرضها أمجاد المدينة جميعها.
أما مجلس النواب فقد حرص اليابانيون على أن تكون جميع المواد التي استعملت في بنائه من أرض يابانية أو من صنع ياباني. على أن يجمع خير ما في الأقضية اليابانية من مواد. مثل البلاط المستخرج من هيروشيما وهو الأفضل في البلاد. وأن يكون أعظم بناء وأرفع بناء. لأنه يرمز إلى الشعب الياباني (علو قبابه 225 قدمًا)
وأما المكتبة الوطنية فقد صممت على هندسة قصر فرساي في فرنسا.
ومد امامها حدائق الخضرة والزهور.
فبقي أن نصب قتلى الحرب يرمز ببساطة إلى اليطولة والشموخ. وهو يقوم حول عمود يناطح السحاب.
وتمتد المدينة الرياضية التي يتسع بناؤها الأساسي لمئة ألف متفرج جالس بين الحدائق التي تحتضن الملاعب على أنواعها.
وهي مترامية الأطراف.
حفلة الشاي وترتيب الزهور
وقد دعينا إلى حضور حفلة شاي يرافقها ترتيب الزهور.
أما حفلة الشاي فتقوم على مراسم متناهية الدقة والتباطوء المقصود.
وكل بادرة تؤتيها طابخة الشاي تعني شيئًا معينًا أو ترمز إلى شيء معين.
يكفي ان تعرف مثلاً إذا قدّم لك الشاي في فنجان عليه صور ورسوم وجب ان تدير وجهه المصور ناحية المضيفة وهذا إكرامًا لها. لانك هكذا تتيح لها أن تتمتع بالنظر إلى التصاوير التي بعد أن تفرغ من احتساء الشاي وعند آخر جرعة وجب ان تطلق شرقة كبيرة تسمعها المضيفة عاليًا فتسر لانك استطيبت شايها.
وأما ترتيب الزهور فهو فن من الفنون تعنى به الصينيات أكبر عناية.
كيف تاخذ الزهرة بيدها؟
كيف تقص من غصنها؟
كيف تسقط بعض اوراقه؟
ثم كيف تلويه يمنى ويسرى قبل أن تضعه في مكانه من الوعاء. فإن شرحه يطول.
غير أن ما لا شبه فيه هو ان المزهرية بعد أن يتكامل عمل شك الزهور فيها تبدو زكأنها لوحة من لوحات أهم الرسامين وقد لحظت أنهم يتجنبن أن تحذو زهرة زهرة اخرى من أي ناحية من نواحي النظر إلى المزهرية.
تأكل معنا العصافير
وقد تناولنا ، اليوم، طعام الغداء في حديقة يابانية فائقة المثيل فأكلت معنا العصافير.
هذا المشهر من أنس العصافير لم أر مثيلاً له إلا في اسطنبول. إذ كانت تحط بيننا لتشرب من نوافير المياه في حديقة الفندق على ضفاف البوسفور.
غدًا في المساء سنترك طوكيو إلى الولايات المتحدة الأميركية وساترك شيئًا من قلبي على حجرها الأسود.