نص الخطب الذي ألقاء الأستاذ إدوار حنين في الحفلة السنوية لتوزيع الشهادات الثانوية في مدرسة سوق الغرب. وقد قدمه عريف الحفلة، بكلمة قال فيها:
"يشرفني أن أقدم اليكم الرجل الذي تحمل المسؤولية، بكل صدق وتجرد وإخلاص،
الرجل الكبير في قلبه،
الوفي بعهوده،
الثابت في المبدأ،
الجريء في قول الحق،
نائب لبنان ووجه لبنان،
وما يمثل في لبنان من محبة وتسامح، وصفاء،
معالي الإستاذ إدوار حنين".
سيداتي سادتي
اني من قرية بين بلدتكم والازرق المتوسط تغفو، حالمة على الهضاب، عند كتف الغدير.
أيام الطفولة كانت لي سوق الغرب واحداً من حدود الدنيا التي كانت تحتضن الصبي: هي في الشرق العالي، الشويفات في الجنوب، الحدث في الشمال، وفي الغرب البحر الهدار المالح.
كنا نسهر، فوق سطح بيتنا في الربوة الخضراء، على قناديلها تموج على الأنسام في الليالي اللاهبة.
وكنا نطفئ قنديل بيتنا عندما تطفأ.
ولم يكن آخر النور، في سوق الغرب، بطويل.
ولا كان عندنا طويلاً.
وكان النهر الذي يغسل أقدام بيتنا في وادي الغدير كأنه يرشح من إبريقها، ثم يجف على جفافاه.
سقاك الغيث أيام كنا على مثل هذه المقاعد وكان عالمنا مثل هذا العالم !!
فمن ذا يجرؤ، اليوم، ونحن في انتظار الأبعد، على القول: ان القمر حد من حدود العالم الحاضر؟!
ان شبيهات "بات"، في الدنيا، كثيرات، على ما جاء في الكتاب الفريد "صرعة المستقبل" و "بات" طفلة من نيويورك راحت تجهش بالبكاء عندما عرفت أن احدى رفيقاتها زارت أوروبا... تجهش وتقول: "تكاد تنقضي التاسعة من عمري ولم ازر أوروبا بعد" !!
العمر الطويل، يا ابنتي
فلم تجدل، بعد، الشعر الشائب.
سرعة التطور المذهلة
ويا إخوتي
أن هذا العالم الدائخ من سرعة، الذي اجتاز في السنوات الخمسين الأخيرة مسافات لم يكن قد اجتاز مثلها منذ يوم الخليقة حتى هذه الخمسين.
إن هذا العالم الذي بعض مدائنه تمتلىء وتفرغ كما الفنادق الكبرى تمتلىء وتفرغ كل يوم، أو تكاد.
إن هذا العالم الذي يميل الى تبديل كل شيء، كل يوم، على نحو ما صارت تتبدل، بعد كل استعمال، محرمة الكلينكس، صحون الكرتون، كباية الورق، ملعقة الخشب، وقميص النيلون،
ان هذا العالم الذي أصبح ينطلق في صاروخ كان، الى خمسين سنة خلت، يسعى على ظهر جمل، وان اسرع فعلى متن طنبر أو على عربة خيل.
ولكن هذا العالم الدائخ من سرعة، المتبدل كل يوم، الجاثم على صدر القمر...
هذا العالم مهما ازداد من سرعة، مهما تبدل من حال، مهما ألف القمر، مهما توثب الى غيره من الكواكب...
عالم الإنسان
يظل، هذا العالم بالذات عالم الإنسان.
الإنسان المشدود الى قواعده، المنبثق من روح الله والعائد الى سمائه.
هذا الإنسان تجمعت له، على مرّ العصور، مقاييس فصارت، بعد بحث وتدقيق وتجارب وإختبار، قيماً إنسانية أخيرة.
مجنحاً أكان هذا الإنسان أما داباً على إثنين،
في البيض، في السود، في الحمر، في الصفر، كان في المغارب أم في المشارق، في الجاهلين أم في العارفين، وفي المرفهين أم في الكادحين.
إنسانك، يا الله، أبداً، إنسانك.
وهو الذي ان أنا توجهت اليه هرما تجاوب معي امردا لأنك بينه وبيني سلكا من نور، وقاسما مشتركا فيه نخترف عليه نلتقي منذ أن ولد، سبحانك، الى أن قبرت، ثم بعثت حيا.
الإفادة من خبرة الآخرين
أعرف، يا اخواتي، ان الإنسان تعود الا يستفيد من خبرة الآخرين استفادته من حصاد العلم.
تجربة إنسان، مهما تكن فريدة وعميقة، لا تنفع انسانا آخر. أما المكتشفات والإختراعات فلا تكتشف أو تخترع مرتين. اليها تنتهي معرفة الإنسانية وبها يبدأ علم العالم. وتعاد تجربة الإنسان مع كل إنسان.
من هنا ان العلم يتقدم، وإن الخبرة في مكانها لا يأخذ بيدها سوى صاحبها. العلم يتراكم حتى يبلغ القمر، والخبرة يتبدد متجمعها في الحضيض. ومع ذلك أدعوكم الى اثنين:
 تجميع ما امكن من الخبرة.
 ثم السهر على الإفادة منها.
صحيح أن تجميع الماء على الماء لا يبني هرما. الا أنه يخلق بحيرة. وهو كاف.
اما الخبرة التي أدعوكم اليها فليست "تراكم الأيام على عمر الطفولة". ان هي الا تعايش، ووعي وتبصر، وتأمل، ثم تجريد يجعل من الحادثة عبرة، ومن القصة مغزى، ومن العابر بقاء.
ثم اني أرى ان الذين يتصل عقلهم بخبرة آبائهم فيكون لها امتداداً هم أنفع لمجتمعهم، لوطنهم، وللإنسانية جمعاء من الذين يتقوقعون في زاويتهم فيحطمون الجسور التي بين الاجيال السابقة وبينهم. اذ انقطاق الإنسان عن أصوله كإنقطاع الساقية عن ينبوعها قتضيع في الطريق، وتبتلعها الرمال.