محاضرة القيت في الندوة البنانية بتاريخ 8 تشرين الثاني 1965.
نتوجه بالشكر الى محاضر الليلة ادوار حينين.ونحن سعيدون في أن تبدأ الندوة سنتها العشرين معه تكريساً لجهاد مشترك، أدبي فكري وطني، يقوم بيننا على أوسع مدى وأخلص مودة، وكله يرمي الى الإسهام في تركيز لبنان اليوم على أمتن القواعد وفي ارساء غده على ما يتوافق ورسالته العظمى.
( من مقدمة مؤسس الندوة، ميشال أسمر)
 
الغد ولبنان حلمان لا أدري أيهما أحب وأروع. أهو لبنان أم الغد؟ فكيف اذا اجتمعا في حلم واحد: لبنان وغده!
بيد اني كنت كلما عدت الى موضوعي الليلة: "لبنان الغد" كان يمثل أمام عيني قولان:
واحد للويس – فردينان سيلين يؤكد فيه أن: "ابله كل من يتكلم عن المستقبل، لأن حاضرنا هو المستقبل"،
وآخر لسانت أكزوبري جاء فيه: "تحضير المستقبل هو العمل للحاضر. أما الذي ينجذبون وراء التخيلات البعيدة فإنهم يفنون في تتبع المحال".
قولان كانا يغمراني بمثل برودة الثلج، فأتسمر مكاني، ويجمد الوثب حد حدود الواقع.
... وبعد افليس واقع العالم، اليوم، نوعا من الحلم الذي لا تحده نهاية؟
سرعة التطور
سيداتي، سادتي،
الذي يبده اجيالنا، اليوم، لم يبده أي جيل قبلنا منذ فجر الخليقة حتى يومنا الحاضر.
لقد مشت الإنسانية، بطريقها الصعدي، في نصف هذا القرن الأخير، شوطاً لم تقو على بعضه منذ أن قيل للإنسان كن فكان. ثم تسلم طريقه.
على سبيل التذكير والمثال نورد ما يلي:
من السنة 1700 الى السنة 1960 تكبير الأشياء بواسطة المجهار (ميكروسكوب) قد انتقل من 200 مرة ازيد من الحجم الطبيعي الى300000 مرة.
في السنة 1830 كانت الطاقة المحركة في حدود ال 200 ميليار كيلوات، فأصبحت في السنة 1960 تزيد على ال 30000 ميليار كيلوات.
في السنة 1830 كانت السرعة القصوى لا تزيد عن العشرين كيلومتراً في الساعة فأصبحت، اليوم، موازية لسرعة الصوت.
قوة المتفجرات كانت قد زادت، حتى السنة 1945، 750 ضعفاً على ما كانت عليه في السنة 1860. وقد بلغت مع القنبلة الذرية 6 ميليار و500000 ضعف، ومع القنبلة الهيدروجينية 4 ميليار و800 مليون ضعفاً. (أي لو شئنا ان نجمع من البارود مقدار ما يفعل فعل القنبلة الهيدروجينية لما اتسعت له جميع أساطيل العالم التجارية والحربية مجتمعة للغرض الواحد).
والخطير في الأمر هو: ما أن تضع الإنسانية يدها على مبدأ علمي حتى يليه التطبيق في سنوات معدود:
فبين اكتشاف النوترون وانشاء أول بطارية ذرية عشر سنوات، وبين اكتشاف الموجات القصيرة واختراع الردار عشر سنوات، ثم بين فلق الذرة وأول قنبلة ذرية خمس سنوات.
وعلى صعيد آخر:
ما الذي لم يحدث على يد التلفون، والسينما، والراديو، والتلفزيون؟ مخاطب نيويورك في باريس كم كان عليه أن ينتظر جوابه، وقد صار يهمس، اليوم، فيسمع؟ صوت الحجاج، ونابوليون، ولنكولن كم كان يطول، في حينه، من المستمعين، وما هو عدد الذين يستمعون، اليوم، الى "صوت العرب" وديغول؟ المستمتعون بباخ، وبيتهوفن وموزار، كم كان عددهم حتى أواخر القرن الفائت، وما هو عددهم اليوم؟ البيوت التي كان يخترق خدورها، أمس، صورة أو صوت ما هي؟ وكم هي؟ وكم صارت، اليوم، البيوت التي لا يستطيع حاجز أن يرد عنها الصور والأصوات؟
أما وهذه هي الحال، فمن أين نبدأ في بناء لبنان الغد؟
هنا نخبط في الحيرة التي ما برح العالم كله يضرب، الآن في مثلها:
عالم قفز قفزة عملاق، فانقطع الذي بين حاضره وماضيه، وإنسان سبق عقله كيانه حتى كأن الإنسام لم يعد يقوى على اللحاق بذاته. ثم أوضاع، وأجهزة، وإدارات ما مازلت على قدميها، في أيدي القدامى، تساس بعقلية ليست من العصر الحاضر.
ومع ذلك يجب أن يلحق العالم بالزمن، وإن يلحق الإنسان بذاته، وأن نكون جميعاً، بقوة الزوبعة التي تعصف في العصر.
كل ذلك على تطور لا تهور، لكي لا ينهار كل شيء، ولكي يعطى للإنسان ان يكيف كيانه على مدوات عصره وعقله، وما بلغ العصر والعقل اليه.
لبنان قاعة استقبال كبرى
سيداتي، سادتي،
تجدون، معي، أننا في عالم مذهل وفي عصر لم تسمع بمثله أذن، ولم تقع عين على مثله.
وتجدون أن لبنان الراغب، أبدا، في العيش على مستوى طموح، والطامح، أبدا، الى مجاراة العصر، ينام ويستفيق على ذهول، ولكنه لا يقبل أن يضل طريقه، وهو يحاول، اليوم، أن يتبين معالمها. فإن لم يوفق، سريعاً، الى ذلك فهو مقبل، بإذن الله على التوفيق في غد. وما غد الإصحاء ببعيد!
لبنان الغد لا بد له من مرتكز وتطلع. أما المرتكز فيجب أن يربطه بمحور الأرض. وأما التطلع فبروحية العصر. وهو ما سنحاول توضيحه، ما أمكن، في حديثنا، الليلة.
يعقد لبنان على ر