الندوة اللبنانية
السنة العاشرة – النشرة السادسة
1 حزيران سنة 1956.
سيداتي ، سادتي،
ثلاث اتمدّها من ظاهر الموضوع:
1 – لولا أنها خواطر لما خطرت لي في بال.
لأني أتورّع أن أقبل على دراسة في موضوع الأدب اللبناني، وللدراسات الأدبية أصول قيادها في أيدي الذين انقطعوا إلى الدراسة انقطاع الرهبان إلى ربهم،
وما نحن بالمنقطعين إلى دراسة الأدب انقطاع المتعبدين.
إن هي سوانح تمرّ في البال، لهذا السبب أو ذاك، تمر في بالكم وبالي، كما تمر النسائم في المرجة الخضراء، يموع لها الخاطر ميعة الأعشاب للنسم المندّى، ثم تنصرف ونحن أحسن حالاً، كأن إلهًا مرّ في الخاطر، فلا تترك كلمة في كتاب، او تدوينًا في ورق.
وما هذا الذي نحن فيه، الآن، سوى محاولة التقاط تنتهي منها إلى إثارة تقف دون حد الرأي الذي، وحده، يستحق أن يكون موضوع جدل ونقاش.
هذه الخواطر نوع من المواد الأولية التي يصلح بعضها للبناء، وبعضها للردم في معرض البناء، وبعضها للزخرفة دون البناء، وبعضها الأخير من النفايات التي لا يأبه بها البناؤون.
2 – أما الثانية فهي أن مجرّد قبولي موضوع "الخواطر في الأدب اللبناني" قبول مبدأ غقليمية الأدب.
وهو المبدأ الذي إعتنقناه، ضمنًا، يوم قلنا بإقليم من الأرض معيّن الحدود يرعى أمة من الناس مميزة الخصائل.
بيد أن هذا لا يعني – ولا يمكن أن يعني في مطلق حال – الاتفاق على تيارات الفكر والروح التي تمخر عباب الشعوب كما تمخر تموجات الأثير عباب العوالم، أشاء الناس أم أبوا.
ذلك أن من رواسب العصور تراثًا إنسانيًا، أصيلاً، واحدًا.
هذا التراث، هذه التركة، خلّفها عظماء الأرض لجميع أبناء الأرض، مشاعًا بين الناس جميعًا، تزيد ولا تنقص، ولا يفضل بعضنا فيها البعض الآخر إلا بنسبة ما يستطيع هذا البعض أن يغترف منها ويعب.
والقائلون بلا إقليمية الأدب – قولاً علميًا مسؤولاً – يقولون بهذا، أو بمثل هذا، ولا يقولون بغيره.
ذلك أن إقليمية الأدب نتيجة محتومة لأكثر من واقع راهن.
الإنسان – وما في ذلك شك – هو ابن الأرض التي سقط رأسه عليها، وحضنته طفلاً وأدمت قدميه صبيًا، وكانت مسرحًا لألعابه وأعماله فتى ورجلاً.
وهو ابن الإقليم الذي تقع أرضه فيه، ابن سمائه ومائه، ابن شمسه وهوائه، ابن نباته وحيوانه، ابن شطآنه ورواسيه.
باسم هذا الناموس أصبحت التفاحة الكليفورنية – وقد تأقلمت بإقليمنا – تفاحة لبنانية في اللون والنكهة والرائحة.
وباسم هذا الناموس تتقلّص ضخامة الأشجار الإفريقية، مثلاً، حتى تتسع لها أوعية الفخّار التي نستنبت فيها الحبق والفل والمنتور في احواض بيوتنا الآسيوية.
والإنسان هو ابن البيئة التي نشأ بين أبنائها، وترعرع فيها، فبادلهم أشياءهم باشيائه، وتفاعل وإياهم في الكبيرة والصغيرة، في السرّاء والضرّاء، تفاعلاً قرّب ما بينهم وبينه، ومايز بينهم جميعًا وبين غيرهم من الناس، في كل بيئة اخرى.
وما يصحّ في الإنسان يصحّ كلّه في الأدب، وتصحّ فيه الزيادة.
إذ إن للأديب – فوق مناخه الإقليمي – مناخًا روحيًا يتأتى له عن مجمل ما هو م منثور وشائع في مدوات حياته، وفي اجواء روحه وعقله:
هنا رمّانة وبيلسانة.
هنا لون غروب.
هنا منديل وشال.
هنا خدّ وعين.
هنا أغان وأمثال.
هنا أحدوثة وقدوة.
وهناك أساطير آلهة وأخبار جن.
خربة، معبد، قبر. خيمة، كأس. صورة، تمثال، كتاب.
هذه المؤثرات خميرة في معجن. تلقّح النفس التي تمسها كما تطلع الخميرة العجين الذي تمسه. وهي لا تطلع عجيننًا من خارج المعجن.
كما أن تلك المؤثرات لا تلقح نفوسًا من خارج بيئتها، التي يقطع بينها وبين غيرها انقطاع العمران، وانقطاع الصلات والمواصلات.
من هنا يصح قول القائلين:
الطائر عشّه،
والشاعر ابن بيئته،
والآديب مرآة أهل زمانه.
حتى إني لا ارى كيف يجوز القول بالشخصية الأدبية، أو بالأسلوب الفني الشخصي، ولا يجوز القول بإقليمية الادب، أو بالأدب الإقليمي.
فبمقدار ما هو أدب الأديب أدب صاحبه الكاتب،
وبمقدار ما هو أسلوب الكاتب أسلوب صاحبه الكاتب،
بمقدار ذاك أدب المصريين هو أدب المصري،
وأدب اللبنانيين أدب من لبنان،
على أن في كل ذلك جامعًا مشتركصا واحدًا يرجع الفضل فيه إلى اثنين:
النفس البشرية، الأزلية – الأبدية، الواحدة.
والشركة الروحية، الغنية الفاعلة، الواحدة.
فمن تكاملت مناقب نفسه،
وانفتح له إرث واسع في تركة الناس الروحية...
وأعطى...
فهو يعطي من شعاب ادبه الإقليمي، من امتدادات ادبه الإقليمي، أدبًا إنسانيًا جامعًا يصح معه قول القائلين:
أن ل