نشأتها وحقيقتها
مجلة الندوة اللبنانية
السنة الرابعة – النشرة 7 – 8
25 حزيران سنة 1950.
... وبعد ، فهل تأذنون، سيداتي، آنساتي ، سادتي، أن نجعل الكلام، في العلانية على أمر أريدت له العلانية لدى الممارسة، وأريد له الاستتار، كما في المعاصي، لدى التحدث فيه؟
وتأذنون أن أتجشّم المركب الوعر فأبدي، أمامكم، شيئًا من المرويات، والاعتبارات، والتأملات في الطائفية:
هذا البعبع الذي هو في أيدي المسؤولين دستور، وشرعة، وسلاح، والذي هو علينا سبّى، ورجعية، ولعنة؟!
فإن أذنتم نبدأ، بعد التحديد: من أين لنا الطائفية؟
الطائفية، أيها السيدات والسادة، ليست بضاعة من السماء، إذ الأديان هي بضاعة السماء.
والطائفية ليست بضاعة وطنية، إذ الإلفة هي البضاعة الوطنية.
وليست الطائفية بنت القداسة، وإنما هي اخت السياسة.
فالطائفية التي نجد في قواعدها الطوائف، والتي نجد في صفوفها أبناء الطوائف، إنما هي غير الطوائف.
ذلك ان الطائفية، موضوع حديثنا الليلة، مزيج من قشور الدين دون لبّه، ومن شعائر الإيمان دون الإيمان، ومن غيرة القساوسة والمشايخ دون رأفتهم واستلهام ربهم،
ومن سذاجة اللبناني دون فطنته وذكائه،
ومن عمل السياسة دون وعيها وضميرها،
ومن خبث السياسيين وقساوة قلوبهم...
ومن جحود الكثيرين بلبنان...
فإذا كانت الطائفة جماعة من الناس توافقوا على كمية معلومة من المفاهيم الدينية، وجرت العادة بينهم على ممارسة بعض الطقوس والشعائر فنشأت لهم، عن ذلك، تقاليد موروثة وتشكيلات محددة معلنة،
تكون الطائفية تحميل تلك الجماعة – فوق ما لها من مفاهيم دينية وطقوس، وعادات، وتقاليد – عصبية هي في رأي المحمّلين، صميمية ملازمة لتلك المفاهيم والطقوس والعادات والتقاليد.
وتكون الطائفية، في رأي هؤلاء تآزرًا بين أبناء الطائفة الواحدة، وتباغضًا بينهم وبين الخارجين عنها. وتكون عملاً مستمرًا واعيًا على إنماء ما في يد الطائفة من وسائل بغية إضعاف ما في يد الطوائف الاخرى من الوسائل، تقضي بالنتيجة – إذا وفق الله! – إلى ان تبيد كل طائفة كا طائفة اخرى.
فلا يبقى غير الظافرين.
أعرف، وقدقادني إلى ذلك التاريخ، أن اللبنانيين في زمن لحق شيوخنا شيوخه، يباعد بيننا وبينه قرن وبعض الآحاد من السنين، كانوا في سواحلهم وجبالهم يعايشون المسألة والأخاء، بيت الواحد منهم يساند بيت الآخر، وتتبرك بجدران الكنائس العباءات، وترفع من مختلف الأديان والطوائف، إلى مقام الأولياء، يوسفًا كان أو عز الدين، النذور: أساور من زنود الأخوات، محابس من أصابع الزوجات والامهات، بخورًا وشموعًا من وفر الصبايا وإدخار النابهات.
أعرف، وقد قادني إلى ذلك التاريخ، أن بعض العائلات اللبنانية الدرزية مثلاً كانت تربط نفسها بوشائج الأخوة والقربى إلى بعض العائلات اللبنانية المارونية مثلاً. وبالعكس.
من ذلك ما كان، في أبان الاقطاعية، بين الجنبلاطيين جولوا الخازنيين حق ادعاء إرثهم عند عدم وجود الوريث الجنبلاطي،
وبحيث أن أفراد الخازنيين كانوا يقرنون بأسمائهم اسم العائلة الجنبلاطية فيتسمى واحدهم، بالشيخ جنبلاط الخازن ويبقى، إلى اليوم، في عجلتون الخازن وقف يعرف هناك "بوقف بيت جنبلاط" أي جنبلاط الخازن.
ولم يقتصر شيوع هذه الأنساب "ألمجاملية" على كبيرات العائلات الاقطاعية وإنما تعداها إلى غيرها فكان للبساتنة، مثلاً أقارب دروز من الحماديين.
وإن ما جرت عليه العادة بين الموارنة والدروز كان داريًا مثله بين الموارنة والشيعيين، وبين المسيحيين إطلاقًا والمحمديين.
وقد كان لهذه العادة المشكورة ردة بعد انقطاع.
فأصبح لي، أنا المسيحي الماروني، بحكم هذه العادة أبناء عمومة من آل عنان المتاولة الشيعيين، كما أن لغيري من أبناء قريتي الساحلية، أبناء عمومة من الشيعيين وأقارب.
وأعرف، من شاهد التاريخ، أن كبارًا وصغارًا من أمراء لبنان كانوا ينتقلون من دين إلى دين ومن طائفة إلى طائفة فلا يبطر ذلك أبناء دين الأمير المعتنَق، ولا ينكس ذلك أبناء دين الأمير المتروك.
وأعرف أن أوقافًا مارونية كثيرة قد اتصلت بالرهابين عن يد أمراء الدروز ومشايخهم كما في القسم الوافر من أوقاف دير الناعمة، في ساحل الشوف، عند حد الدامور.
وذلك لقاء لا شيء أللهم سوى وعد يقطعه الرهبان للنكديين في أن ينشئوا كنيسة ومزارًا على إسم أحد القديسين الأبطال فيجعل دير الناعمة، مثلاً، في شفاعة مار جرجس راعي الحصان، وقاتل التنين.
ونعرف جميعًا شيوع الأسماء الواحدة بين العائلات الدرزية والمارونية والاورثذكسية والسنّية والشيعية من مثل: شقير، سليم، أبو الحسن، شبير، عبد الساتر، الحسيني.