في حياة اللبنانيين ثلاث ملاحم:
ملحمة البناء
ملحمة الانتشار اللبناني
وملحمة الإنقاذ
أما ملحمة بناء لبنان المستمرة أبدًا، فقد بدأت منذ أن عزم قوم من أهل الجبل على العيش احرارًا – كرامًا، على قمم جبالهم، وفي مغاور اوديتهم، وسهول شطآنهم.
فبنوا أول بيت في الدنيا ليحرروا أنفسهم من الوحش، والجر، والقر، والاعتداء، ومن الانتقال القسري من مطارح اشتغالهم، وأعمالهم إلى المغاور.
واحدثوا أول شراع للتفلت، بواسطته، من عبودية المكان الضيق، والجار المؤذي، وللاتصال بشعوب الأرض المتمادية الاطراف، على متنوع طبائعها وعاداتها.
وابتكروا الحرف ليطلقوا لكلمتهم على متنوع طبائعها وعاداتها.
وابتكروا الحرف ليطلقوا لكلكتهم العنان، وليقهروا النسيان الظالم.
واستمرت ملحمة البنا يوم عاد قوم منهم آخرون فعزموا على أن يكونوا احرارًا في معتقداتهم، فقاموا من سهل أباميا وجوارها، إلى جبال لبنان، على دفعتين:
الاولى: عند احتدام الخصام بين اليعاقبة والنساطرة فأرادوا أن يحافظوا على نسطوريتهم
والثانية: عند بدء الدعوة الإسلامية، فأرادوا ألا يصبحوا ذميين.
ثم توالت فصول هذه اللحمة عندما راح اللبنانيون يفتّون الصخور، ويعلقون مكانها الجنائن، وينشئون الأديار، والكنائس، والمدارس، والمطابع، وينفتحون للعالم الغري، ويفتحون مغالق ديارهم للتيارات الروحية والفكرية والفنية العالمية، ويتدرّجون على دروب المدنية، والحضارة، والتقدم، والرقي.
وأما ملحمة الانتشار، فبدأت طريقها مع قدموس وأوروب، وأليسار، وأوبالينوس، وزينون، وإقليدس، ومارينوس، وتيرانس، فحملوا معهم الأبجدية إلى الغرب، وكانوا على أساس المذاهب الفكرية والفلسفية، والعلمية، والشعرية، التي انطلقت من بعدهم في العالم.
ثم توالت هذه الملحمة:
في الغرب، على يد الصهيوني، والحصروني، والحاقلاني، والباني، والمطوشي، والجمري، والقريري، والسماعنة، الذين أنشأوا المكتبات ونظّموها في حواضر أوروبة، وبخاصة في الفاتيكان، وباريس، وإسبانيا، (الإسكوريال)، وألفوا وترجموا ووضعوا الجداول والفهارس والشروحات للمؤلفات الرئيسة.
وفي المشرق، مع الشيخ لطف الله العاملي الذي أنشأ القصور، والمساجد، والساحات، في عهد الشاه عباس في أصفهان، وفي غيرها من المدائن الإيرانية.
حتى جاءت الهجرة الاخيرة، فأخذ انتشار اللبنانيين في العالم يتسع في القرن التاسع. بدأ بالبشعلاني، حتى صارت لنا احزاب وجمعيات في الولايات المتحدة الاميركية، والبرازيل(النهضة اللبنانية)، في الأرجنتين، والمكسيك، وكندا، ومصر (الاتحاد اللبناني)، وفي باريس (اللجنة اللبنانية).
رافقتها رابطات ادبية، "ألرابطة القلمية" في الولايات المتحدة الاميركية و"ألعصبة الاندلسية" في البرازيل.
ثم انطلقت لنا جرائد ومجلات في جميع أنحاء الدنيا:
في الولايات المتحدة: الهدى، مرآة الغرب، الشعب، النسر، البيان، السمير، الأخلاق، الإصلاح، والاتحاد.
في البرازيل: أبو الهول، المناظر، الأفكار، المنارة، فتى لبنانن الدليل، والمرسل.
في الأجنتين: السلام، الزمان، المرسل، الاتحاد اللبناني، الحياة، الإصلاح، والاحوال.
في المكسيك: الشرق، الخواطر، الاعتدال، الرفيق، القسطاس، والامير.
في مصر: الأهرام، المقطم، الهلال، المقتطف، الشفاء، والحقوق.
وفي غيرها من بلاد أوروبة وآسيا، وإفريقيا.
وتجيء ملحمة الإنقاذ،
وهي هذه.
وانها الثالثة في الترتيب الزمني.
غير أن مصير الملحمتين السابقتين مرتبط، ارتباطًا وثيقًا، بمصيرها. فإذا ما نجحت بقيت الاوليان، وإن فشلت تعرّضت الملحمتان السابقتان إلى انتكاسة رهيبة.
ملحمة الغنقاذ هذه اوجبتها الأخطا التي اخذت تتراكم، منذ فجر الاستقلال.
وزادت في توجبّها السنوات الثماني المشؤومة.
فلبنان الذي نتولى اليوم إنقاذه مسّ الكثير من خصائصه، ومن مقومات وجوده.
فهو لم يعد واحة للامن، االمستقر.
لم يعد وطنًا للحرية المتعافية.
لم يعد السيد المطلق على أرضه.
لم يعد الجسر الذي يتنقّل عليه، بسلامة، ذهابًا وإيابًا، خير من وما في هذا المشرق وخير من وما هم ورا البحار.
لم يعد المركز المالي الخامس بين دول الأرض.
لم يعد المقعد المطمئن للمؤسسات الاقتصادية، والفكرية، والفنية، والحضارية.
لم يعد العنصر الفاعل في أداء الخدمات.
لم يعد لأهله، وحدهم...
لم يعد ساحة سلام...
لم يعد رسول سلام بين"أشقائه" على ما تعوّد ان يكون، فجعل منه "أشقاؤه" القديمة عن أمنهم وسلامتهم، وسلامة مؤسساتهم، وحكامهم.
لم يعد اللسان الذرب الذي يدافع عنهم، والمعين الامين الذي يحمل قضاياهم في صدره، فيجوب عواصم السياسة والمحافل الدولية ا