كان طبيعيًا أن تسهم "ألفصول" في المؤتمر الماروني العالمي الثاني الذي ينعقد، في نيويورك من 8 إلى 12 تشرين الأول 1980، فتخصّه بواحد من اعدادها. لأن عمل "ألفصول" يدور، في الأصل، على كل ما من شأنه أن يعمّق معرفة اللبنانيين بلبنان. ذلك أن المعرفة، في اعتقادها، تبني المحبة وترسّخ جذورها في النفوس. أوليس أنّ المرء عدو ما يجهل ومَن يجهل؟! فأية غضاضة في أن تعالج، اليوم، قضية الموارنة على أن تعالج، غدًا، قضايا الطوائف الاخرى، كما تعالج، على الدوم، القضايا المشتركة بينها جميعًا.
حتى لو لم يكن هذا المؤتمر لكان لزامًا على هذا العدد أن يكون، لأن الموارنة هم الذين كانوا أول من اختار لبنان ملجأ لهم، فتبعهم إليه الدروز، والشيعة، والسّنة، والطوائف الإسلامية والمسيحية الاخرى، فكان محتومًا أن يُعرف، على يد "ألفصول"، من هم الموارنة، وما كان عملهم، على مدى التاريخ، بدقة التاريخ.
لذا رأينا أن نفصّل الكلام عليهم في أبواب ستة:
1 – منشأ المارونية.
2 – موطن المارونية ودورها في بناء لبنان.
3 – الروحانية المارونية.
4 – الإشعاع الماروني.
5 – المارونية في العالم، والعالم في بلاد الموارنة.
6 – المراجع المارونية المهمة، وشهادات الموارنة فتكاد تتكامل، حول هذا العدد، المعرفة عمهم.
وبديهي أن لا يتسع عدد فرد لجميع هذه المطالب، وبخاصة عندما يتوخى الباحث الدخول في تفرعاتها، والتزام الإحاطة والإفصاح. لذلك لن يرد في هذا العدد سوى بعض تفرّعات من كل مطلب. على أن تجتمع كلّها في أعداد مقبلة حتى تستقيم.
وقد يستغرق عمل التأليف هذا زمنًا طويلاً. ولكنه لن ينقطع حتى يكتمل.
على أنه من شأن هذا العدد بالذات، أن يرسم الخطوط الكبرى للعمل الكبير، وأن يلقي النور على بوارزها.
وهو حسبنا وما نبتغيه.
وفي ما يلي، من دراسات وأبحاث، سيتراءى الكثير مما يجب أن يكون معلومًا عن نشأة المارونية، وتكوّنها، وروحانيتها، وأعمالها. فليس علينا، هنا، أن نستبق ما سيكتب في ذلك، تجنّبًا للإعادة والتكرار والملل.
غير أن فوائد مما لا بد أن يعرف، منذ البدء، في موضوعها يجري عليه القلم لمامًا في هذه المقدمة:
الموارنة، دينيًا ، أبناء مار مارون، وأبناء الفينيقيين، ثنيًا، وتاريخهم، طبيعيًا، امتداد لتاريخ الفينيقيين.
المارونية تمرّد على السلطان وخضوع للإيمان. فكأن في ذلك تسليمًا لله ومقارعة للإنسان،
وهي سيرتهم.
ليست المارونية دينًا، إن هي إلا طائفة من دين.
وليست هي لبنان، إن هي إلا ركن من أركانه.
وعلى صعيد الدين، فإنها تمثّل الانقطاع إلى التفكير اللاهوتي الذي حفظ المارونية في الخط المستقيم فحافظت، أبدًا معه، على علاقتها السليمة بالكرسي الرسولي. فلا بدعة فيها ولا انحراف، بل انسجام متواصل دائم مع الكنيسة الرسولية – الرومانية – الكاثوليكية – الواحدة، في جميع الأزمان والعصور.
أما على صعيد لبنان فقد كانت المارونية حريصة، أبدًا، على أن يبقى لبنان ملجأ المروّعين، وموئل الحرية، ودار الامان، كلاً لكل أبنائه.
فالماروني أراد نفسه، في لبنان، إنسانًا حرًا:
حرًا في معتقده يستطيع أن يكون، ضمن المسيحية، حيثما يشاء أن يكون.
حرًا في تصرّفه: في ممارسة شعائر دينه، في إقامته وترحّله، في اختيار ومعاطاة عمله، في محازبة من يريد على من يريد، في التعبير عن معتقده وشؤون عمله، وعن كل ما يجول في خاطره.
وقد حضّ نفسه، إلى ذلك، بحرية لا حد لها في التعيّش والارتزاق حملته على فتح أبواب العالم من جهاته الأربع، فملأ الدنيا بولده ومآتيه.
وما أراده الماروني لنفسه أراد مثله لغيره من شركائه في الوطن الصغير.
من هنا يتضح، كما سيتبين من كل ما يجيء، أن المارونية كنيسة ووطن، وأنها حريصة على استقلال كنيستها، وعلى استقلال وطنها، تستميت، أبد الدهر، في الدفاع عنها وعنه.
ثم إن المارونية ليست كنيسة، ولا هي طائفة، فحسب، بل هي حزب سياسي متعدد الجناحات.
فيوم لم يكن في الإكليروس الماروني غير الرهبان، كان الرهبان ينتخبون، من بينهم، بطريركًا عليهم. والبطريرك، بفعل هذا الانتخاب، كان الرئيس الأعلى للكنيسة المارونية الذي حُصرت في يده السلطة الروحية والسلطة الزمنية في آن معًا.
الكنيسة المارونية تحولت، هكذا، إلى كنيسة قومية. فتحوّلت على التوالي إلى أمّة.
وحيث أن المارونية لم تكن وحدها في لبنان، بعد أن انضم إليه الدروز والشيعة والسنة، وجد الموارنة أنفسهم، في الدفاع عن حقوقهم، حزمة واحدة، تحولت، مع الزمن، إلى حزب سياسي له هيكليته، وأهدافه ومراميه، وخطّة عمله التي كانت تملي على أتباعه مواقفهم.
وما برح الموارنة ذاك الحزب السياسي الواحد. وإن كانت لم تتوحد فئاتهم فيه، ولا توحّدت سبلهم إلى أ