كانت أكثر ما تفرح بهذا العيد
عيد الغطاس
ولم تكن تقول لماذا
ولكننا كنا نرى ذلك في وجهها، ووفي عينيها السوداوين
كان الميلاد، عندها، - في ما كان يبدو عليها – عيدًا لتذكار.
تذكار جميل لمجيء إله على الأرض في جسم إنسان لرحمة الإنسان.
ولكنه تذكار على كل حال
وكنا نعرف ذلك من أنها كانت تبتهج بالعيد بنسبة ما كانت تمطر، ليلة العيد، وتثلج، ويكثر بردها، وبنسبة ما كانت أجواء لبنان، تذكر بليلة الميلاد في الناصرة، منذ 1954 سنة.
وإني لأذكر سنة لم تكن لييلة العيد فيها ماطرة، ولا بردها قارصًا، ولا ثلجها ينهمر، فلم أقرأ على وجهها تلاوين السعادة كالعادة.
فكأنها، ليلتذاك، كانت تستحيي، أمامنا، من قطن نثرته على أنه ثلج، حول المغارة، وتنظر فلا ترى ثلجًا، حولها في كل أنحاء لبنان.
وكان رأس السنة – في ما كان يبدو عليها – رأسًا لهم مكبوت.
الأعلّه كان الهم الذي بدأ قلقني في مطالع كل عام: زمن يدبر وعمر يلحق به في الأدبار.
أما العيد الذي كان لها عيدًا فيملأ نفسها غبطة، كيفما جاء، فهو عيد الغطاس.
لأنه لم يكن، عندها – في ما كان يبدو عليها – عيد تذكار.
إن هو إلا مناسبة مقدسة مفرحة هي العيد بالذات
وما هذه المناسبة غير ما كان في اعتقادها من أن المسيح يخطر في الأرض، عند منتصف هذا الليل، فيراه كل من في قلبه نور.
ولقد كانت تراه، هي أيضًا، بنور إيمانها.
لم تكن أمي ترى ما لا يرى.
ولا كانت ترى ما ليس كائنًا.
ولكنها كانت، مثل أمها، تثق بأمها.
وكان راسخًا في اعتقاد هذه السلالة الحلوة أنهن يشاهدن اللله.
ألم يقل سبحانه:
"طوبى للأبرار فإنهم يشاهدون الله".
كانت امنا لنا أطيب أم على الأرض.
وأطيب ما كان يطيب لنا طيبها يوم الغطاس:
فمنذ الصباح الباكر كانت ترسل هذا في طلب حطب الزيتون.
وهذا في طلب أمها وأخواتها.
وذاك وذاك في طلب الطحين والكستناء والسكر والجوز واللوز والتين والزبيب.
ومنذ الصباح الباكر كانت تنقل مواقد الطوب إلى زاوية في غرفة السمر
وكانت تملأ القناديل زيتًا.وكانت تفرض علينا أن ننام في النهار لنقوى على السهر في الليل الذي ما أن يبدو جناحه حتى كانت تضاء الشموع في منارة البيت، فنقف من حولها، ونسجد، ثم تأخذ الصلاة مجراها المقدس على صوتها الحنون الشجي الذي لم يكن يسمع إلا في مناسبة الصلاة.
ولا تنتهي الصلاة إلا يكون قد بدأ الدق في ---- : دق المسك واليانسون
ويستمر عرس قلي العويمات والزلابيه والمعكرون حتى منتصف الليل.
وفي منتصف هذا الليل، كانت أمي وامها وأخواتها يتخطفن من بيننا، يلتحفن بمعاطفهن بشالاتهن ويخرجن بين الزيتون الذي حول بيتنا في --- الخضراء.
ججج
يا أمي
لن ننسى، هذه الليلة أيضًا، أن نترك أبواب بيوتنا مشرّعة على الليل، وعلى مالئ هذا الليل، القادم فيه إلينا.
لنن ننسى أن نترك الأضواء مضاءة
ولن ننسى أن نضع الخميرةفي قرقارة الزيتونة، حد السنديانة، لأن المسيح الذي في الخميرة القديمة قد قدم ولا بد لها من مسيح جديد.
ويا أمي،
فما زلنا نلتقي الله، في هذا الليل، مثلما كنا نلقيه في عينيك كل ليلة غطاس
وسنبقى للقاء مرة مل عام
إلى أن نلقى وجهه، جميعًا، في ملكوته، فيكون اللقا البهي الذي لا فرقة بعده.