بدأت حرب 1914 – 1918 بعد شهر من ولادتي، فمن الطبيعي ألا أعي كيف كان وقع الحرب على العائلة، ولكن أذكر بعض أشياء حصلت في أواخر هذه الحرب. أذكر أن الناس جاعوا، وأن الموت أصاب الجائعين منهم، وأن ذات صباح رأيت على باب دكان والدي رجلاً ميتًا، فأعطى العلم لأهالي القرية – طفرسيما قريتي – فحضر ثلاثة منهم ومعهم درفة باب، وضعوا الميت عليه، ومضوا في دفنخ.
مشينا، والدي وأنا معهم، فدفناه تحت الشوار الثاني من حاكورة لنا. وبقيت أذكر هذا الميت وحفلة دفنه كلما مررت من تلك المكان. وكان هذا المكان على طريق كنا نسلكها في قريتنا، هي طريقنا إلى برج البراجنة الأصيلة.
الحراب "والقدرة"
أذكر أن يومًا طَلَبَت مني أمي أن أطل على الموقدة لأرى إذا كانت النار مشتعلة تحت "القدرة"، ورأيت رجلاً ممسكًا بها، يناولها إلى رفيق له من شباك لم يكن له حديد، صرخت فحضر والدي من الطاحونة التي كانت لنا مع بعض الشغيلة، وأعطى السارق ورفيقه رغيفين ونصف ما كان في "القدرة"، وقال لهما: "كل يوم بعد يوم فيكن تجوا لهون. وفيكن تاخدوا "قبعة خبز" سدّوا بها جوعكما إلى أن يفرجها الله".
أذكر أن والدي طوال أيام المجاعة من سنة 1916 حتى نهاية الحرب، كان لا يأكل إلا رغيفًا واحدًا، إلا أنه كان يقسم الرغيف قسمين أو قبعتين".
يأكل واحدة معنا، ويأخذ الثانية معه مع ما تيسر من طعام ليعطيها إلى أول إنسان يلتقيه بعد مغادرته البيت. سمعت والدي يقول مرة لأمي: "مش من حقي أن أطعم الجائعين من لقمة الولاد، ولكن من حقي أن أطعمهم نصف ما هو لي".
الطاحونة والمورج وبيوت التراب
كان والدي ملاكًا كبيرًا، في أراضيه الواسعة زيتون وليمون وتين ولوز وإجاص وعنب. قد يقال إن كثيرين مثله جاعوا. أقول: "قد يكون ذلك صحيحًا ولكن كان لوالدي طاحونة، وكان قمح العسكر التركي يطحن في هذه الطاحونة، وكان كل من تصل يده إلى رطل قمح يطحن قمحه فيها، وكان الأجر طحينًا، لذلك، كان الطحين موجودًا عند العائلة التي كان حولها من الأهل والأقارب والجيران عائلات لا طحين لديها، فكانت هي أيضًا تستفيد من طحين العائلة.
أخذ والدي أول أيام المجاعة يزرع أراضيه الواسعة قمحًا بين الأشجار ، وأراد الله أن تكون المواسم مقبلة تلك الأيام، ولي من على بيدر القمح في رزقنا ذكريات لا تنسى، منها، كيف كنا أخوتي وأنا، إذ لم يكن لنا جيران، نتقاتل على أدوارنا في ركوب المدرج، وفي أي اتجاه يجب أن يدور، وهل يمكن أن يركبه واحد منا أو اثنان. كان يشترط الذي يقبل أن يركب المورج معه أخوه أن يتلقى هو درازة الفدان المكدون على المدرج بسكة لكي لا يتلوث القمح المدروس وكان يشترط عليه أن لا يستعمل المسّاس، وقلما كنت أستعمل المساس، لأن الفدان سواء شكّ بالمساس أو لم يشك، كان لا يغير مشيته ولا يتوقف أبدًا.
لم أكن أحلم في طفولتي إلا في اللعب وكانت أبرز ألعابي بناء بيوت من التراب على ضفة نهر الغدير الذي يمر أمام بيتي، وتسلق أشجار الصنوبر التي كانت تحيط بيتي، والحرب مع إخوتي. أما أدوار الصبي فلم يكن يحلم إلا بالطلوع من المدرسة الداخلية التي كان فيها ولم تكن له تطلعات أرفع من ذلك.
مدرسة الخوري أنطون واليسوعية
حصلت علومي الابتدائية في مدرسة الضيعة في مدرسة الخوري أنطون في طحويطة الغدير – برج البراجنة.
انتقلت بعدها إلى اليسوعية في بيروت وقضيت فيها من الصف الثامن حتى ليسانس الحقوق كنت مع إخوتي في اليسوعية داخلي حتى أخذت البكالوريا الجزء الثاني.
أذكر من رفاقي في مدرسة الخوري أنطون: ميشال أبو زيد وهو قتل شابًا. وفي اليسوعية الشيخ قبلان عيسى الخوري الزيعم الشمالي، وإميل طرابلسي من حمص والده صاحب بنك في طنطا، فؤاد حداد أبو الحق الذي اغتيل في حوادث سنة 1958، والدكتور أنطوان مرعب، والمطران أوغسطينوس فرح وأربعة رهبان من الرهبنة الشويرية، والمطران غريغوار حداد...
أذكر من أساتذتي الفرنسيين الأب سوانيون، واستاذ الفلسفة الأب مارتن، ومن الأساتذة اللبنانيين الأبوان برجي ويوسف فارس والاساتذة أبي نادر وباخوس وفؤاد افرام البستاني والحقيقة أنه لم يكن يستهويني الطيش، إلا في مرة قدت حركة تمرد في اليسوعية، وهو عن الرد على أسئلة كانت توجه إلينا والسكوت عن أوامر كانت تعطى لنا. هذه الحركة استحقت لي الطرد ولوالدي العذاب في تدبير الأمر...
بطل التفاوض مع بكركي
بعد المدرسة قدت حركات أضراب كثيرة، منها الاضراب ضد الريجي الذي دعا إليه وقاده البطريرك عريضة، يومها ألقي القبض عليّ وعلى بعض رفاقي وأوقفنا في دائرة البوليس.توصلت إلى الخروج منها والذهاب إلى بكركي وأخبار سيدها بما حصل، فتدخل المطران بولس عقل وأطلق سراح الموقوفين.
أما كيف خرجت من دائرة البوليس قبل رفاقي، فقد كان أسعد البستاني رئيس قسم البوليس العدلي، وهو نسيب أمي وأم أبي اللتين هما من بيت البستاني، وكان مكتبه في مركز البوليس في البرج حيث كان توقيفنا. ولما عرف أنني بين الموقوفين استدعاني وقال لي: "روح طلاع على البيت وما بقاش تمشي في مظاهرات".
قلت له: "أسعد بك متفقين أنا ورفاقي الموقوفين ما بيطلع حدا منا إلا وقت اللي بيطلع الكل سوا" قال: "ما بدك تخبّر البطرك شو صار معك"
قلت: "أنا ورفيق من رفاقي غير الموقوفين".
قال: "إنت والملايكه، بس عمول متل ما بقلك، ما بقا ترجع تتظاهر، كنسيب عم قلك هالحكي مش كموظف حكومة".
وهكذا أصبحت بطلاً، بطل التخلص من التوقيف، وبطل التفاوض مع بكركي ومن جراء هذه المراجعة أجلي جميع الموقوفين.
المحامي والشباك
أول دعوى تسلمتها دعوى عقارية وهي فتح شباك على ملك الجار خلافًا للقانون. خسرتها في البداية وربحها صاحبها في الاستئناف على يد محام آخر، فكنت لو أنا ربحتها لأني كنت مقتنعصا بحق هذا الرجل بفتح هذا الشباك نظرًا لأوضاع الجيرة وللملابسات الضخمة القديمة والحديثة التي اكتنفت هذه القضية. فربحها المحامي قانونيًا.
أول معاش تقاضيته خمس ليرات عثمالية ذهبًا. قبضتها وجئت إلى والدي، قال لي: "خليها معك". وأعطاني مفتاح جارور في خزانته لأتركها فيه، ففعلت، ولكنني لم أعد أفتح الجارور إلا لآخذ مما فيه لا لأزيد عما فيه. فأنفقت الليرات الخمس قبل أن أزيد عليها قرشًا واحدًا.
بدأت تدرجي في مكتب الأستاذ كميل شمعون.
بعد سنة نقلت تدرجي إلى الأستاذ فؤاد الخوري الذي أصبح نقيبًا للمحامين ونائبًا عن جبل لبنان ووزيرًا للعدل في عهد الرئيس الشيخ بشارة الخوري. بعد إنهاء تدرجي فتحت مكتبصا خاصًا مستقلاً في شارع اللنبي ملك صعب، وهو مكتب كان مرّ فيه الرئيس إميل إده. وكان جاري فيس المكتب ريمون إده الذي أصبح نقيبًا للمحامين، والأستاذ ابراهيم خير الله المختص بقضايا المغتربين اللبنانيين.
أخذت من معلمي الاستاذ فؤاد الخوري قاعدة ذهبية ساعدتني ألا أفشل. وهي أن الألا أقبل الوكالة في قضية لا اقتنع بصاحبها، وفي حال الفشل كنت أحيل صاحبها عليه، فكان الأستاذ فؤاد الخوري يتولى ربحها بسهولة فأربحها أنا.
الصحافة والقضاء
لم أنقطع عن ممارسة المحاماة ولم انقطع كليًا إلى ممارسة الصحافة. كان دافعي إلى الصحافة ميلي إلى الكتابة عززه في نفسي ميل إلى الدفاع عن الحق.
أول مقال كتبته كان في موضوع القضاء وعنوانه "ساعدوا القاضي على أن يتحرر". ونشرته في جريدة "المعرض" لميشال زكور وميشال أبي شهلا.
من رفاقي في الصحافة ميشال زكور وميشال أبي شهلا والياس حبيب زكريا وفؤاد حبيش وفؤاد حداد أبو الحن وصلاح لبكي وكميل يوسف شمعون وكانوا يسمونه كميل الاحرار، ورشدي المعلوف والوزير جورج سكاف وروبير أبيللا، وفاضل سعيد عقل، ورامز خليل سركيس، وخليل رامز سركيس، وحنا غصن وحنا الفغالي ويوسف المكرزل وتقي الدين الصلح وكاظم الصلح ويوسف السودا ولويس الحاج وجورج مصروعة ومحمد البعلبكي وباتريك قلعجي ويوسف ابرهيم يزبك وخير الدين الأحدب وبطرس معوض وجبران تويني وجورج نقاش وكسروان لبكي وتوفيق عواد وشارل حلو وميشال شيحا والشيخ يوسف الخازن.
كانت علاقتي بهم متفاوتة جدصا، منهم أصدقاء ومنهم في مقام الإعجاب. وتعلمت منهم جميعًا طرائق شتى في التفكير السياسي والأدبي وفي الكتابة، وتميز عندي ثلاثة: جورج نقاش في "الاوريان" وشارل حلو في "لوجور" وجبران تويني في "النهار".
منذ بداياتي، أؤمن بأنحق الماوطن في الاطلاع على الخبر مقدس، ولا أقدس من واجب الصحافي في غطلاعه على الرأي. والكاتب الذي لا تمس أعماقه عاديات الأمور ليس كاتبًا أصيلاً. قد يكون كاتبًا هاويًا وهو لن يكون أديبًا، ومعلوم الفرق بين الكاتب والاديب. في الأقوال المأثورة إنه الشاعر صحفي زمانه. ففي هذا إشارة إلى أنه عنصر انفعال. أما ما هو الفرق بين الشاعر والكاتب؟ فربّ كاتب أشعر من الشعراء، فما القول مثلاً بشاتوبريان وأندره جيد وفرنسوا مورباك وموريس بارس وكتاب Action française في رأسهم شارل موراس الذين لم ينظموا بيتًا واحدًا من الشعر.
في يوم قال صلاح لبكي في عشاء كان يضم في بيته الياس شبكة ورشدي المعلوف وسعيد عقل ونوفل الياس والدكتور كميل معوض وبهيج تقي الدين: "إدوار حنين هذا الناثر الذي لم ينظم في حياته بيتًا واحدًا من الشعر أكثرنا شاعرية"
ولا أدري بالضبط إلى ماذا كان يشير صلاح لبكي في قوله هذا...
إن الكتابة عندي هي العبير الأكثر التصاقًا بي في نضالي. أهدف فيها أولاً إلى البوح عما في نفسي وأدعو الناس ثانيًا إلى مشاركتي في مشاعري النضالية وفي عملي النضالي. وأنا أؤمن على رغم التطورات التقنية أنه لا يقوم مقام القراءة شيء. لأن العين هي الأكثر فهمًا من الأذن ولأن في القراءة تأمل لا يدركه السماع.
جمعية أهل القلم
لم أكن مستحقًا خلافة صلاح لبكي في رئاسة جمعية أهل القلم. فهو إنسان رائع وشاعر رائع وأديب رائع وهو صديق ولا أصدق لا يجارى كإنسان وشاعر وأديب.
أنشئت جمعية أهل القلم في بيت المرحوم ميشال الأسمر مؤسس "ألندوة اللبنانية" ومنظم محاضراتها. الغاية من إنشائها تعريف بعض أهل القلم إلى بعضهم الآخر في مؤسسة يكون لهم فيها كيان مستقل، ليتمكن هذا الكيان من القيام بدوره قيامًا حسنًا فيؤدون من هم مدعوون إليه خدمة المجتمع والوطن، ومن خلال ذلك تحسين ما امكن من حالهم وحثهم على الإنتاج وتفتيق آفاق عصرية لهذا الانتاج... ولكن قاتل الله السياسة التي قتلتها.
النوم خلّب البال
أنا ما عرفت الحقد والبغض والحسد في حياتي. لم أنم يومًا إلا خليّ البال بعد أن أغسل رأسي من مشاعله ونفسي من هواجسها كما كانت أمي تغسل لي المحرمة التي تكون في جيبي قبل أن تنام.
وأرى أن القيم الإنسانية كما كلام الصلاة جميعها مرتبة واحدة... أمارس إيماني بالتأمل وبالصلاة وهما طريق اتحادي الأفضل مع الله...
إني مسيحي مؤمن من ضمن مارونيتي، أتمنى أن يكتب على بلاطة قبري "هنا يرقد مؤمن بالله وبلبنان".
حين احترق بيتي في كفرشيما شعرت أن طفولتي احترقت وعش العصافير أكثر ما أسفت عليه فنجان قهوة من أصل ستة فناجين قُدّمت منها القهوة في عرس امي وهي حفظتها وبقيت إلى أن أحترق بيتنا في كفرشيما.
لقد أتلف الحريق مخطوطاتي ومكتبتي وتذكارات كنت احفظها من أصدقائي ومن أسفاري وأدوات كثيرة أخرى. حسبتها كلها كانها لم تكن. شفيت نفسي من الآلام التي أصابتها من جراء ذلك إلا واحدصا وهو فنجان القهوة الذي يستيقظ ذكراه كلما رشفت فنجان قهوة. ويحدث لي ذلك في اليوم الواحد أكثر من عشرين مره... لا دائمة إلا الله ولبنان.
الثقة بآدميتي
سنة 1957 كان قد انقضىعليّ عشرون سنة امارس فيها المحاماة وأمارس الصحافة.
في ظلال هذه العشرين سنة وقفت خطيبًا عشرين مرة عشرين، وحاضرت عشرات المرات في بيروت وزحلة وطرابلس وصيدا والنبطية وفي مدائن الجبل وفي الشمال إهدن وبشمزين وفي اجتماعات عامة وفي حفلات مدرسية وفي حفلات تكريم لأحياء ومتوفين، وفي مآتم وأعراس وفي مهرجانات سياسية وثقافية واجتماعية... كل هذا ما لم يؤهلني لأن أكون مرشحًا للنيابة في دائرتي، دائرة بعبدا، إنما ما جعل ترشيحي مقبولاً لدى الناخبين كان ترشيح الكتلة الوطنيةلي تعززه مساندة الرئيس كميل شمعون رئيس الجمهورية آنذاك.
في الانتخابات التي تلت هذه الانتخابات وهي خمس دورات، أصبح لي رصيد شخصي كان يمكنني من النجاح. ففي انتخابات السنة 1972 يمكنني أن أقول إن الناخبين انتخبوني لشخصي أو سبب اختيارهم لي أنهم "يثقون بآدميتي" المتجلية بأني لم أكذب على أي واحد منهم، لم أتنكر لأي واحد منهم، لم أستثمر مقامي النيابي، لم أغب عن حضور جلسات المجلس إلا في النادر ولأسباب قاهرة. كان حضوري في المجلس حضورًا إيجابيًا. فلم يجر نقاش إلا وكنت متدخلاً فيه، كنت لا أخشى معارضة الحاكم ولا أخشى تأييده من وحي اقتناعاتي الوطنية. كان بيتي بيت كل ناخب يقصد إليه في النهار وفي الليل، كنت محمولاً بفطريتي وتربيتي على مشاركة الناخبين في أفراحهم وفي أتراحهم وعلى تحسس مشاكلهم وهمومهم...
كان برنامج عملي في أثناء النيابة برنامج "ألكتلة الوطنية" وحققنا منه الكثير كاستذدار قانون سرية المصارف وقانون للصحافة يمنع التوقيف الاحتياطي للصحافيين...
كل هذا إلى جانب السهر الداؤوب على استقلال لبنان وحريته وسيادته وبقائه... فالنظام الديمقراطي البرلماني لا يصلح غيره للبنان الحر السيد المستقل.
البيان الوزاري والممارسة
صدف لي أن كنت عضوًا في اللجان الخمس التي وضعت البيانات الوزارية في الحكومات الخمس التي كنت في عداد أعضائها. وكثيرًا ما كنت أنتبه إلى انحراف بعض هذه الحكومات عن بياناتها الوزارية. ويكاد يكون الجواب واحدًا، لقد تغيّرت الظروف، وغالبًا ما تكون الظروف مستمرة. فانحراف الحكومات عن بياناتها هو القاعدة.
بعض الوزراء كانوا يلحون في تنفيذ وعود البيان ضمن وزاراتهم. فكان يُنظر إلى هؤلاء كانهم مزعجون.
ولأنني كنت انزعج من أن أُعْتَبر مزعجًا كنت أريح من وجودي بينهم فأستقيل.
حكاية الحلف والجبهة
للحلف الثلاثي حكاية. وللجبهة اللبنانية حكاية أيضًا.
اما الحلف الثلاثي الذي حصل بين الكتائب اللبنانية وحزب الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية فحكايته أنه كنا في السنة 1968 على أبواب الانتخابات النيابية في عهد الرئيس شارل حلو وكان التدخل الفلسطيني في الشؤون اللبنانية الداخلية على أوجه، يشهد على ذلك اتفاق القاهرة الذي وضع سنة 1969.
من مسببات حصول هذا الاتفاق محاولة لجم الفلسطينيين من تدخلهم في شؤون لبنان الداخلية خصوصًا في الانتخابات النيابية.
كان من الشائع آنذاك أن الفلسطينيين يحاولون شق الأحزاب اللبنانية والإيقاع فيما بينها وأن يقلبوا هم حزبًا على حزب بموجب ما يستطيعون أن يأخذوا أثر من هذا الحزب او ذاك. كان الرئيس شارل حلو واعيًا كل ذلك ذات ليلة، وكثيرًا، ما كنا نسهر معًا في قصر الرئاسة فاتحني في الأمر.
قلت: فخامة الرئيس هذا هو هاجسي الدائم منذ سنين.
قال: وهل فكرت في حل؟
قلت: ان تجمع الأحزاب الثلاثة الكتائب والاحرار والكتلة في جبهة واحدة وان نحملها على أن تخوض الانتخابات النيابية في جميع الدوائر بدءًا من جبل لبنان والعاصمة على قوائم واحدة...
قال: هل هذا مستطاع؟
قلت: في معركة الوصول والانتخابات معكرة وصول فضلى. في معركة الوصول كل شيء يمكن أن يحدث
قال: من لإنجاز هذا العمل؟
قلت: أحاول.
قال: تستطيع أن تنجح فيه إن انصرفت إليه.
صباح اليوم التالي تحدثت في الموضوع إلى المهندس محمد رعد في الأحرار فوافق. ثم في النهار ذاته تحدثنا أنا ومحمد إلى التاجر طانيوس سابا في الكتائب فوافق. واتفقنا على أن يكاشف محمد رعد الرئيس كميل شمعون وأن يكاشف طانيوس سابا الشيخ بيار الجميل.
وتوليت أنا مكاشفة العميد ريمون إده.
فرأى كل واحد منا بعد المكاشفة أن الأمر ممكن. فكان الاجتماع الأول بينهم في بيت كاظم بك خليل. أما لماذا بيت كاظم الخليل؟
فلأنه من حزب الأحرار، ويقيم طانيوس سابا من الكتائب في البناية نفسها، في الطابق الذي يعلو الطابق الذي يسكن فيه كاظم بك. أما العميد ريمون إده فكان لا يعطي قيمة لهذه الاعتبارات.
بعد اللقاء الأول بين الرؤساء الثلاثة بحضور الوسطاء الثلاثة رعد وسابا وحنين وصاحب البيت كاظم بك، توالت اللقاءات في المكان نفسه إلى أن حصل الاتفاق على إنشا الحلف الثلاثي. ثم تكررت اللقاءات لوضع القووائم الانتخابية، وظلت تحصل دوريًا إلى أن جاء موعد الانتخابات فظلت لقاءات الرؤساء الثلاثة وأركان أحزابهم تنعقد لبحث الشؤون الانتخابية، وقد جاءت النتائج مدهشة .
لم يدع إنشاء الحلف الثلاثي أحد إلا كاظم الخليل، وهذا طبيعي لأنه لم يكن يعرف ماذا سبق زياراتنا له، ولأنه اللقاءات جرت في بيته، ولأنه عين باتفاق الرؤساء الثلاث، أمينًا عامًا للحلف، ومن جراء ذلك كان يطلق التصاريح التي كان يظن أنها تصاريح الحلف.
بقيت ساكنصا إلى أن رأيت الحلف يوجه لدهسي في انتخابات 1972. عندها قلت في تصريح "للسان الحال": الأب لا يأكل ابنه، والآلة يجب ألا تدهس مخترعها. فأنا أبوه ومخترعه فارفعوا يدكم عنه ليعمل كما عمل فور إنشائه وقد شارك في الجدل آنذاك عارفون بالحقائق إلى أن أعيد الحق إلى صاحبه...
أما حكاية الجبهة اللبنانية فهذه ولادتها...
كان قد قصف القصر الجمهوري في بعبدا، وراى الرئيس سليمان فرنجية نقله إلى الكفور. فانطلق معه من بعبدا نواب وأصدقاء كثيرون. وصلنا إلى الكفور أربعة: كارلوس خوري، الشيخ بطرس الخوري، لوسيان دحداح وأنا، وبقينا في دارة لوسيان دحداح. أما أنا فجعلت إقامتي في دير سيدة الحقلة وهو دير مقابل للتلة التي عليها دارة الدحداح.
كنا نجتمع يوميًا بالرئيس فرنجية، ثم انضم إلينا الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل والأباتي شربل قسيس والسيد نسيم جبور.
وبعد اجتماع الرئيس فرنجية بالموفد الأميركي دين براون حيث حصل بعده بعض التلبك، اقترحت عليه تشكيل هيئة استشارية بغياب الحكومة ومقاطعة الرئيس رشيد كرامي.
قال الرئيس فرنجية: ممن؟ قلت: من الأكثر ترددًا عليك. من الرئيس شمعون والشيخ بيار الجميّل والأباتي شربل قسيس.
قال الرئيس فرنجية: وأنت!؟ قلت، ولماذا لا يكون في الهيئة جواد بولس والدكتور شارل مالك والاستاذ فؤاد افرام البستاني.
قال الرئيس: ادعوا فورًا غلى الاجتماع غدًا الساعة العاشرة، هنا في الكفور. وهذا ما كان. وأخذت الصحف تتحدث عن جبهة الكفور وتحول اسمها مع الأيام إلى الجبهة اللبنانية ...
إدوار حنين – حديث إذاعة "لبنان الحر"
أجرت الحوار مي متى لبرنامج "صدى الأيام" في 14/6/1987.