كان صلاح لبكي، الرجل، واحدًا من الجبل اللبناني الذين ظلّت جبليتهم واضحة في تحسسهم وتفكيرهم،
واضحة في تسوسهم وأعمالهم،
وواضحة في نطقهم، وزيّهم، ومعشرهم، وفي كل ما يفعلون،
لكأنه ظل مشدودًا، أبد العمر، إلى ربوة مورقة من ضواحي بعبدات يعود يستلهمها في كل أمر أو هي مع كل أمر في نفسه.
وكان صلاح لبكي، الشاعر، واحدًا من شعراء الطليعة في الهمس، بوحًا وبثًا، وفي التعبير عن ناعمات الخواطر والأحاسيس،
فيه شيء من البحتري، وابن الرومي، والمعري،
وفيه الكثير من شجو الأندلس، وحنين الشعر المهجري،
وفيه ما ليس في غيره من سهوة هذا الجبل، وتناغم شطآنه، من كسل سواقيه، وتناؤب انسامه، من فورة ينابيعه، ودل أزهاره وأشجاره.
كل هذا في أداء ما انقطع بينه وبين الجيد من أداء القدامى، على صلة رفيقة ناعمة بينه وبين الجيد من أداء المحدثين.
وكان صلاح لبكي، الكاتب، واحدًا من الذين وفقوا إلى إفراغ الفكرة، طريئة تخفق، في قالب الكلام المجنّح، يهون معه الوصول إلى إفهام الناس، فلا تجفلهم غلابة، أو جدة طريقة، أو جرأة في اقتحام العوالم البكر.
حتى قيل، في حين، إنه ناثرًا أطيب منه شاعرًا.
وليس الكاتب السياسي أقل منه كاتبًا في "أعماق الجبل".
وقد يكون حرّك في مقاله السياسي كوامن في النفس لم يقو على تحريكها كاتبًا في الجمال والفن والأدب.
وكان صلاح لبكي، القائل، واحدًا من أسياد الكلمة في لبنان سواء في ذلك خطب، أو حاضر، أو حدّث، أو ترافع في قضايا موكّليه.
فهو إن وقف خطيبًا في قومه وقف معه الجبلي والشاعر والكاتب،
ثم راح الخطيب يبرز في جملة رقراقة، عصبية، دافئة تشد بينه وبين السامعين في مثل جو الاعتراف، فتنقل كل ما في نفسه، على أرخم جناح، إلى نفوس سامعيه، وتحدث تلك الوحدانية بينهم وبينه التي بدونها لا خطابة ولا إقناع.
أما الخطيب المحامي فقد كان نسيجًا لوحده، يتخايل بين الحجة القانونية، والحجة المنطقية، والحجة العاطفية، والحجة الدفقية – الخطابية، كثيفة في حين، شفافة في آخر، على مدى ساعات وساعات، فما يكاد ينتهي من مادة الإقناع التي بين يديه إلا وقد انتهى السامعون إلى الاقتناع، ولما تنته طاقتهم على الإستماع والاستمتاع.
وكثيرًا ما رأيت فعل هذه الكلمة دموعًا في عيون الآخرين.
وكان صلاح لبكي في كل ما كتب وقال ذاك الإنسان الذي يعي إنسانيته أولاً، والذي يؤمن أن اشتغاله ما لم يكن لاجل الإنسان فعبثًا يشتغل، وقبض الريح ما يحمل. فهو لا يكاد يقسو على إنسان أو يجور حتى يعود عاتبًا على نفسه، نادمًا على فعله، ومسلّمًا نفسه للطريق السوي.
وبعد، فقد جزّأت وأكثرت لأرى شيئًا من النور – أحاول أن أريه – في كنوز هذه النفس الغنية الحلوة.
على أن صلاح لبكي – شأنه في هذا شأن كل إنسان – وحدة لا تتجزأ.
وعلى أن صلاح لبكي – شأنه في هذا شأن القليلين من الناس – وحدة جمالية تحب.