سيداتي ، آنساتي، سادتي؛
هل أعنف الحقيقة إذا قلت: طاب لي أن سلمت كلمة الندوة في هذا المساء،
ولم يطب لي أن أباعد – وإن دقائق – بينكم وبين الشاعر الذي تحبون. وإن قبلت أن أفعل إلى حين، فلكي ترجع عيناي تريان حلاوة الجمع بين اسم له وسيم واسم لي آخر طالما حلا أن يجمع بعض الناس بينهما في أحاديثهم، حينًا، في قلوبهم، حينًا، وفي آمالهم كل حين.
وبعد، فهل تريدون حديثًا عن الشعر ونحن في ساحة الشعر خاشعون؟
أم تريدون معي أن أجعل الكلام على شعر اللبكي فأستعيد امامكم ما أحسب انه خصائص شعره، ومقومات صناعته وفنه، ومفاتيح السر إلى مفاتنه ومعانيه؟!
الاستاذ لبكي واحد في القليلين الشعراء الذين قدروا ألا يقطعوا قديم الشعر والمحدث منه، فظل على وفرة توغله في عوالم المحدثين، يحمل بحتريًا في قلبه أو يحمل في قلبه جميلاً وعروة.
ذلك أنه عرف أن الجدة في الشعر لكي تحسب جدة في الشعر يجب أن تكون أصولها في التراث الشعري لتبقى، هي بدورها، في التراث.
وعرف أنه يستحيل أن تجيء الجدة على يد غير يد الشعراء العتاق المجددين.
كما عرف أن الانفلات في الشعر منحة تعطى للمجيدين الذين تمرسوا في الشعر المعتق الأصيل، وللذين أتيح لهم أن يضبطوا أصوله وأن ينضبطوا، هم، في حدود تلك الأصول على نحو ما تعطى الفتوحات الجديدة للفاتحين الذين قيض لهم أن يجوبوا، سالمين، سبل العوالم المطروقة السالكة.
فإن هم انقطعوا عنها، قبل أن تستقيم لهم، كلها، وتنفد، انقطعت بهم الدنيا.
فإن هم انقطعوا عنها، قبل أن تستقيم لهم، كلها، وتنفد، انقطعت بهم الدنيا، وظلوا في حدود ذواتهم صاغرين، ثم أغلق عليهم في حدود ما يعرفون من الأرض، وجهارًا ما كان معروفًا لدى الآخرين، وأجهض الفتح بين أيديهم من حيث لا يعلمون.
فإذا ما رحنا نستمع، بعد قليل، إلى شاعر "مواعيد" رجوتكم أن تتبصر في صلة الوصل والاستمرار بين شعر سينشد عليكم حديث وبين شعر من صفوة ما في القديم كمثل هذا:
آن التي زعمت فؤادك ملّها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النعيم قصاعها
بلباقة فأدقّها وأجلّها
حجبت تحيّتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا واقلّها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
(عروة بن أذينة)
وهذا:
أصفيك أقصى الود غير مقلل
إن كان أقصى الود عندك ينفع
وأراك أحسن من أراه وإن بدا
منك الصدودوبان وصلك أجمع
يعتادني طربي إليك فيعتلي
وجدي ويدعوني هواك فأنبع
كلفًا بحبك مولعًا ويسرني
أني امرؤ كلف يحيك موله
البحتري
رجوتك، قلت، أن تحكموا بأنفسكم – بعد الذي سمعتموه – وما ستسمعون – في كيف أوتي شاعر "مواعيد" القدرة على أن يبعد في حدود الكلامية العربية – أو أن يبعد حدود هذه الكلاسيكية نفسها إلى حيث حيث لم يبلغ السابقون.
وذلك دون أن يجيد قيد ذرة عن مفاهيم القيم الجمالية بمطلق معناها الحديث وهي التي تجعل من شعر اللبكي أنغامًا وألوانًا، أظلالاً وأضواء، تمثلات إنشائية، في كلام متساوق مختار يوحي، يدل، ويعني، تجمعت كلها، مع شيء من المبهم الفائق، على نقل السامع من جو نفسه إلى أجواء نفس الشاعر فتلبس السامع حالة الشاعر التي في الروح بحيث المنشد والسامع سويان في الأحاسيس، متعادلان في الغبطة، متفاعلان على هوى الإيقاع والإنشاد.
وكل ذلك دون أن ينيه الشاعر عن النغم الذي في رحاب نفسه وهو النغم الذي يوجب أن يكون الشعر موجات تتسع وتضيق، تعلو وتهبط، تتعاظم وتلتوي وتغور، حسبما هو في النغم التائه الذي يحتم على الشاعر الفذ أن يلتقطه في نفسه، فيتعقب مداه، ثم يجمده في الكلم، فلا نفرة له منه، ولا نفرة عنه للسامع، وهو ما يجعل من قصيدة اللبكي وحدة جمالية، منوعة العناصر، واحدة القرار، مستمرة من البداية حتى النهاية بحيث يموت بيت القصيد في الكل أو يصبح الكل بيتًا للقصيد واحدًا.
الأستاذ صلاح لبكي شاعر في القليلين الشعراء الذين أعطوا حقها فأنصفوها ثم قدروا ألا يقطعوا بين الكلمة ومدلوها.
إن شاعر "الأرجوحة " و"سأم" عرف، في طليعة العارفين، أن الكلمة تمسك بالذين تسلط عليهم من أوصالهم وأعرافهم.
الكلمة شيء، يستطعم ويذاق قبل أن تكون شيئًا يزدرد ويبلغ.
وإن الكلمات كائنات ثرثارة مقضة يجب أن تخرس وتلجم لكي لا تنطق إلا مرة واحدة في المكان الذي عين لها من العقد النظيم.
وعرف أن الكلام يجب أن يعجن عجنًا وأن لا يعلك علكًا.
وأن الألفاظ جواري. وهي خدم في بيوت المعاني.
وأن للحروف أجراسًا لكل جرس منها طنة ورنة.
فحذر صلاح لبكي طغيان الطغاة الكلمات وراح يبعد ويقصي، يقرّب ويدني، ثم ينتفي ويتخبر حتى استقامت له الألفاظ ليّنة المقاطع، مستوية التقاسم، متعادلة الاطراف، حلوة المخارج، كلها – أو جلّها ولا قياس، من الجيّد المنتقى الجامع للرقة والجزالة، والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة.
بحيث أصبح يروق لنا أن نسمع – على ما في انتخاب الرجال من البشاعة – صوت رجل يتوجع، ويستعطف ويلهث.
وأن نسمع اللبكي يقول:
يا وجعي منك في الهناء
وفي البؤس أنت
ويقول:
سألتك مستعطفًا أن تجيئي
وهل لي أن أستجاب، وما لي
سألتك مستعطفًا فرضيت
وأخلفت. والخلف بعض الدلال
وما كنت أنت لو أنك جئت
فخلّيك انت ولو ساء حالي
وعرف شاعر "الأرجوحة" و"سأم" أن الكلمة بما تدل عليه وتعنيه فإذا ما شبّهت الكلمة بالزهرة كانت الحروف مجمل الزهرة، والمعنى أريجها. فالزهرة التي لا تتضوّع شذا، زهرة جميلة، إن شئت، وليست من اطيب الزهور.
وهكذا الكلمة التي لا تتضوع معنى فهي كلمة جميلة، إن شئت ، ولكنها ليست من اطايب الكلام.
وكما ان الزهرة التي تطلق عبيرها – عن يد خاصة فيها أو يد نسمة جموح – بعيدًا في البعيد زهرة لا عبير لها ولا شذا. هكذا الكلمة التي يبعد مدلولها عنها او تبعد هي عن مدلولها، فإنها كلمة لا معنى لها ولا مدلول.
ذلك أن شدا الطيب يجب أن يظل عالقًا بالطيب، أو قريبًا من الطيب لتظل الصلة وثيقة بين شذاه وبينه وإلا أنكر أن يكون العبير عبيره والشذا شذاه.
أليس أنه إذا جاز ان تطلق الكلمات على غير وعي وحذر، دون ما التفات إلى روابطها بما تعنيه،
كان المجنون أصدق المتكلمين لأنه يجسد، بالكلمة التي تجيء عفو الخاطر، التحسس الذي يجيء عفو الصدفة والظروف.
فالأستاذ لبكي، على كثرة ما يغالي في تخيّر الألفاظ، وانتفاء الكلمات، والتأنّق في رصفها، ظل لا يقطع بين الطيب وأرج الطيب، بين الكلمة ومدلول الكلمة.
كما ظل لا يقطع بين الصورة وأصلها، بين المشبّه والشبيه، بين النغم ونفسه وبين التمثل وحقيقة ما يتمثل.
وهو ما سوف تلمسونه بالأصابع العشرة وبسطة الكفين.
وإني أرجو ألا أفهم على غير ما عنيت:
أنا لست – في الشعر خاصة – ضد المعاني المحجبة بحجب الألفاظ الدقيقة اللطيفة.
ولكني لست للأحاجي وللكلام المرصود فيه على مخابئ معانيه.
ذلك أني اعلم: أن تلاقي الفكرة والكلمة على التجسيد لا بد فيه من العنف. إذ الفكرة يجب أن تعنف لتدخل في حدود الكلمة، والكلمة يجب أن تعنف لتسع الفكرة كلها. وعمل العنف هذا مصدر طبيعي للغموض في التعبير.
وهو هذا الغموض بالذات الذي يكسب اللغة حياة جديدة، وأملاً في الحياة جديدًا.
وأورد – إلى ذلك – لو يعرف اعتقادي:
إن الببغاء، الذي يصغى إليه أكثر ما يصغى للطيور لما يجيد من ضروب الكلام، الذي يجيده الإنسان ليس أحسن الطيور إنشادًا، ولا أحبها غناء، وأطيبها في التغاريد لمجرد أنه يقول كلامًا يعني.
أراني توقفت واطلت عند أداة التعبير ووسيلة الغخراج.
لقد فعلت ما فعلت لاعتقادي أن الكلام المتهته الفارغ مرض الشعراء عندنا وآفة الأدب في هذه الفترة من الدهر.
وفعلت ما فعلت لان في الشعراء والأدباء والمتأدبين – وفي المجيدين، منهم أحيانًا – من يحسب الشعر في من شعره كلام مزوّق – منمق جميل. وفيهم من أوهم نفسه أن اطيب الشعر أغربه، وأن أحدث الشعر أبعده في الغرابة.
ولولا ذلك لطاوعت رغبة المستمعين – ورغبة في نفسي – وبدأت من حيث قدر لي أن انتهي.
لكنت بدأت في تقديم شاعر الغزل الأول عندنا بما يليق بالأول من شعراء الحب والغزل.
وكنت بدات في ان أقول:
إن صلاح لبكي واحد من الشعراء القليلين الذين نرتاح إلى أنهم يحبون ما نحب، كما نعرف، نحن، أن نحب، ومثلما يحلو لنا أن نحب.
إنه شاعر المرأة التي تمشي على أرضنا،
تخطر في شوارع مدننا، ودروب قرانا،
والتي تعايشنا في بيوتنا،
وتأكل أكلنا،
وتشرب شربنا،
وتشقى مما منه نشقى،
وتطرب لما نطرب له،
وتتألم لما يؤلم نفوسنا،
وتضعف لضعفنا،
وتقوى من قوة لنا،
تموت لما يميتنا،
وتحيا بنا،
وتخلد في حبنا،
أو تغيب فلا ذكر لها قائم ولا يصمد لها خيال.
شاعر المرأة التي شر كلها، وكلها خير ونعمة.
إنه شاعر الوحشة والسأم،
شاعر اللوعة والتحرق،
شاعر الدلال والإغراء،
شاعر اليأس والالم والأمل،
شاعر التوجع والترجي والاستعطاف،
شاعر الوعد والأخلاف.
الشاعر الذي يعرف أن يقول ما لسنا نعرف أن نقول وما نريد لأنفسنا أن نقول.
وإذ افسح المجال لأخي صلاح يكاشفكم خوالج نفسه أكون مرتاحًا إلى أن يده ستدرك الأعماق في أعماقكم، فتحرك الطيب الذي تكتنزون، والجمال الغافي الذي تختزنون، واللوعة الكاسحة التي تكبتون.
وحسبي أن هذا الرجل أحب الكثير والكثيرين بالكثير، فكنت، في كل مرة، أعرف نفسي فيه.
إلا في واحدة:
فقد أحب ومشى
فلا عرفته هو
ولا عرفت نفسي فيه.