الندوة اللبنانية
السنة العاشرة – النشرة السادسة
1 حزيران سنة 1956.
سيداتي ، سادتي،
ثلاث اتمدّها من ظاهر الموضوع:
1 – لولا أنها خواطر لما خطرت لي في بال.
لأني أتورّع أن أقبل على دراسة في موضوع الأدب اللبناني، وللدراسات الأدبية أصول قيادها في أيدي الذين انقطعوا إلى الدراسة انقطاع الرهبان إلى ربهم،
وما نحن بالمنقطعين إلى دراسة الأدب انقطاع المتعبدين.
إن هي سوانح تمرّ في البال، لهذا السبب أو ذاك، تمر في بالكم وبالي، كما تمر النسائم في المرجة الخضراء، يموع لها الخاطر ميعة الأعشاب للنسم المندّى، ثم تنصرف ونحن أحسن حالاً، كأن إلهًا مرّ في الخاطر، فلا تترك كلمة في كتاب، او تدوينًا في ورق.
وما هذا الذي نحن فيه، الآن، سوى محاولة التقاط تنتهي منها إلى إثارة تقف دون حد الرأي الذي، وحده، يستحق أن يكون موضوع جدل ونقاش.
هذه الخواطر نوع من المواد الأولية التي يصلح بعضها للبناء، وبعضها للردم في معرض البناء، وبعضها للزخرفة دون البناء، وبعضها الأخير من النفايات التي لا يأبه بها البناؤون.
2 – أما الثانية فهي أن مجرّد قبولي موضوع "الخواطر في الأدب اللبناني" قبول مبدأ غقليمية الأدب.
وهو المبدأ الذي إعتنقناه، ضمنًا، يوم قلنا بإقليم من الأرض معيّن الحدود يرعى أمة من الناس مميزة الخصائل.
بيد أن هذا لا يعني – ولا يمكن أن يعني في مطلق حال – الاتفاق على تيارات الفكر والروح التي تمخر عباب الشعوب كما تمخر تموجات الأثير عباب العوالم، أشاء الناس أم أبوا.
ذلك أن من رواسب العصور تراثًا إنسانيًا، أصيلاً، واحدًا.
هذا التراث، هذه التركة، خلّفها عظماء الأرض لجميع أبناء الأرض، مشاعًا بين الناس جميعًا، تزيد ولا تنقص، ولا يفضل بعضنا فيها البعض الآخر إلا بنسبة ما يستطيع هذا البعض أن يغترف منها ويعب.
والقائلون بلا إقليمية الأدب – قولاً علميًا مسؤولاً – يقولون بهذا، أو بمثل هذا، ولا يقولون بغيره.
ذلك أن إقليمية الأدب نتيجة محتومة لأكثر من واقع راهن.
الإنسان – وما في ذلك شك – هو ابن الأرض التي سقط رأسه عليها، وحضنته طفلاً وأدمت قدميه صبيًا، وكانت مسرحًا لألعابه وأعماله فتى ورجلاً.
وهو ابن الإقليم الذي تقع أرضه فيه، ابن سمائه ومائه، ابن شمسه وهوائه، ابن نباته وحيوانه، ابن شطآنه ورواسيه.
باسم هذا الناموس أصبحت التفاحة الكليفورنية – وقد تأقلمت بإقليمنا – تفاحة لبنانية في اللون والنكهة والرائحة.
وباسم هذا الناموس تتقلّص ضخامة الأشجار الإفريقية، مثلاً، حتى تتسع لها أوعية الفخّار التي نستنبت فيها الحبق والفل والمنتور في احواض بيوتنا الآسيوية.
والإنسان هو ابن البيئة التي نشأ بين أبنائها، وترعرع فيها، فبادلهم أشياءهم باشيائه، وتفاعل وإياهم في الكبيرة والصغيرة، في السرّاء والضرّاء، تفاعلاً قرّب ما بينهم وبينه، ومايز بينهم جميعًا وبين غيرهم من الناس، في كل بيئة اخرى.
وما يصحّ في الإنسان يصحّ كلّه في الأدب، وتصحّ فيه الزيادة.
إذ إن للأديب – فوق مناخه الإقليمي – مناخًا روحيًا يتأتى له عن مجمل ما هو م منثور وشائع في مدوات حياته، وفي اجواء روحه وعقله:
هنا رمّانة وبيلسانة.
هنا لون غروب.
هنا منديل وشال.
هنا خدّ وعين.
هنا أغان وأمثال.
هنا أحدوثة وقدوة.
وهناك أساطير آلهة وأخبار جن.
خربة، معبد، قبر. خيمة، كأس. صورة، تمثال، كتاب.
هذه المؤثرات خميرة في معجن. تلقّح النفس التي تمسها كما تطلع الخميرة العجين الذي تمسه. ئهي لا تطلع عجيننًا من خارج المعجن.
كما أن تلك المؤثرات لا تلقح نفوسًا من خارج بيئتها، التي يقطع بينها وبين غيرها انقطاع العمران، وانقطاع الصلات والمواصلات.
من هنا يصح قول القائلين:
الطائر عشّه،
والشاعر ابن بيئته،
والآديب مرآة أهل زمانه.
حتى إني لا ارى كيف يجوز القول بالشخصية الأدبية، أو بالأسلوب الفني الشخصي، ولا يجوز القول بإقليمية الادب، أو بالأدب الإقليمي.
فبمقدار ما هو أدب الأديب أدب صاحبه الكاتب،
وبمقدار ما هو أسلوب الكاتب أسلوب صاحبه الكاتب،
بمقدار ذاك أدب المصريين هو أدب المصري،
وأدب اللبنانيين أدب من لبنان،
على أن في كل ذلك جامعًا مشتركصا واحدًا يرجع الفضل فيه إلى اثنين:
النفس البشرية، الأزلية – الأبدية، الواحدة.
والشركة الروحية، الغنية الفاعلة، الواحدة.
فمن تكاملت مناقب نفسه،
وانفتح له إرث واسع في تركة الناس الروحية…
وأعطى…
فهو يعطي من شعاب ادبه الإقليمي، من امتدادات ادبه الإقليمي، أدبًا إنسانيًا جامعًا يصح معه قول القائلين:
أن لا حدود جغرافية للفكر،
ولا مجامه أرضية للأدب.
فلو لم يكتب هوميروس قصة حرب طروادة التي عاش وأحس، فصوّر فيها من صور، على ما صوّر، من الدقّة والعمق والإتقان، ثم ساقها إلى أهل بيئته وزمانه… وقد يكون إلى الحبيبة التي احب… وليس إلى غير الحبيبة،
ولو لم يكتب شكسبير، وراسين، وغوتيه، على هذا الوحي من الكتابة،
لما كان بلغ واحد من هؤلاء مراتب الأدب العالمي الذي رقوا إليه على سلالم آدابهم الذاتية.
ولو لم يصوّر سرفنتس دون خيشوتيه يغالب طواحين الهواء في المزرعة الإسبانية النائية،
أو يضوّر ألفونس دوديه ترترانه – الذي هو من ترسكون بالذات – لما وجدنا في كل قرية بلبنان دون خيشوتي، وترتران، او أكثر من دون خيشوتي وترتران واحد،
ولما وجد الناس، في قراهم ونوازلهم دون خيشوتيين وترترانيين كثيرين، في كل جيل وجيل.
ولما كان دخل هذا وذاك في أقداس الآداب العالمية.
سيداتي سادتي،
انا لو أوتيت من لدن الله أن أكتب سيرة قرية ضائعة في جبال لبنان، أو سيرة إنسان ضائع في هذه القرية، أو سيرة سنديانة ضائعة في مشاعها، ووفقت في هذه الكتابة وأجدت، حتى عرف كل قروي قريته في قريتي، وكلإنسان إنسانه في غنساني، وكل جبلي سنديانته في سنديانتي،
فسموت من الخاصيات إلى العموميات، ومما هو لي، إلى ما هو لكم ولي ولكل إنسان…
انا لو أعطيت ضلك، وفعلت لوجدتموني، يومًا، ولا شك، في مراتب العالميين من رجال الأدب.
على أني أكون قد قصرت منتجعي وإعطائي وقلمي على موضوع من لبنان في ادب لبنان.
3 – وتتعلق الثالثة بمفهوم الأدب:
أكاد لا أعرف – فيما أعرف من أخبار الشعوب – شعبًا يتسع مفهوم الأدب عنده، الاتساع الذي وصل إليه مفهوم الأدب عند قدماء اللبنانيين.
كان يوم أدركت آخر انفاسه، في صباي، شغل مكانه في الأدب كل من جرى له قلم فيما يخرج قليلاً عن المألوف من شؤونهم ابتداءً في التندّر وبأخبار الأدباء ورواية شعرهم، وانتهاء بالدراسة الأدبية ونظم القريض، مرورًا بإنشاء الرسائل والمقالات.
حتى إن المتطوعين منهم لقراة رسائل المغتربين، وللرد عليها بالأسلوب التقليدي المعلوم، كانوا فر عرف بعضهم أدباء.
وأدباء جميع الذين يعنون بشؤون الأدب، حتى المادية منها، كالناشرين والطبّاعين والورّاقين.
وهي نزعة إن دلّت على شيء فعلى ما في صدور اللبنانيين من حرمة للكتاب وقدسية للقلم، أكثر ما تدل على جهل القيم وزيغة المقاييس.
كأن الأدب عندهم بعض من عبادة، والأديب خادم في هيكل العبادة، وكا ما يتصل بالأدب والأديب موصول بهذه العبادة.
شأنهم في ذلك شأنهم في معابدهم حيث تطول القداسة كل ما هو من المعبد وفيه.
في ذلك اليوم كان الباب إلى الأدب واسعًا، والوالجون فيه قلة.
ثم لم يلبث أن ضاق باب الادب، واتسع عدد الوالجين فيه.
وظل مفهوم الأدب يتصفّى عندهم على الأيام، وينعم، حتى أصبح الأديب في عرفهم، إنسانًا أصاب شيئًا من الثقافة، يحسن التبصّر والتذوّق، له في كل ما يسمع وما يرى رأي ذوّاق عليم، ويجيد التعبير عن ذاك، وعما يعقل ويحس، في أداء جميل انيق.
أما نحن فستجدنا عند هذه المقاهيم جميعًا. لأن كلامنا سيدور على جميع هذه الحقبات من عمر الأدب في لبنان.
وليس من الحق أن نتناول بمقاييس هذا الزمن أشياء كانت تقاس بغيرها.
ولا هو من الأمانة في كل حال.
سيداتي، سادتي،
ويسأل، في مستهل هذا القول، سائل:
لماذا – وقد كانت أولى تمتمات الأدب في سفوح لبنان، وفي لبنان أوائل تباشيره – لماذا عاد فحوّل الأدب عاصمته عن قرى ومدائن لبنان إلى غير دنى ومدائن؟
لماذا، مثلاً، كانت عندنا أولى التشوّفات إلى المعرفة، فأنشأ أباءنا، وأصدقاء آبائنا، المدارس في الكنائس والجوامع، في الأديار والخلوات، تحت السنديانة، وفي ظل جدران الطرق؟
ونوعوا التدريس حتى كان يدور على اللغات، والادب، والخطابة، والعربية، والأرمنية، والتركية، والفارسية، والعبرية، واللاتينية، واليونانية، والإيطالية، والفرنسية، والغنكليزية، والالمانية؟
حتى كانت هذه المدارس تطلع إلى الحياة شبانًا يلمّون بسبع لغات كالمعلم بطرس البستاني، والشيخ سليمان البستاني، وجمهرة كبيرة من رجال الدنيا والدين.
ولماذا انكب آباؤنا على وضع أولى المؤلفات التي كانت تعتبر ، بحق، أولى السلالم إلى المعرفة؟
وهي التي بدأها، في قواعد اللغة، تلمطران جرمانوس فرحات في "بحث المطالب"،
ثم استمر فيها المعلم بطرس البستاني في "مصباح الطالب في بحث المطالب" و"مفتاح المصباح"، والشيخ ناصيف اليازجي في "لمحة الطرف في أصول الصرف" (1854) و"الجمانة في شرح الخزانة" (1864)
وطوق الحمامة" (1865)
و"ألباب في أصول الإعراب"،
و"نار القرى في شرح جوف القرا"،
و"الجوهر الفرد"،
و"فضل الخطاب في أصول لغة الإعراب"،
والشيخ أحمد فارس الشدياق في "غثية الطالب ومنية الراغب"،
والشيخ يوسف الأسير في : "إرشاد الورى لنار القرى"،
وسليم تقلا في "الأجوبة الجليّة في الأصول الصرفيّة"،
والشيخ ابراهيم اليازجي في "مختصر نار القرى في في شرح جوف الفرا"، و""مطالع السعد لمطالع جوهر الفرد"،
والشيخ ظاهر خير الله في "الامالي التمهيدية في مبادئ اللغة العربية"،
وجرجس صفا في ""الفرائد السنية في إيضاح الأجرومية"،
والأب جبرائيل إده في "القواعد الجليّة في علم العربية"،
والمعلم سعيد الشرتوني في "تمرين الطلاب في التصريف والإعراب"،
وسعيد شقير ويوسف أفتيموس في : "طيب العرف في فن الصرف"،
والمعلم شاهين عطيه في : "عقود الدرر في شرح شواهد المختصر"،
وجبر ضومط في "الخواطر العراب في النحو والإعراب"، و"الخواطر الحسان في المعاني واليان"،
والمعلم رشيد الشرتوني في "مبادئ اللغة العربية"،
والشيخ عبد الله البستاني والخوري نعمة الله باخوس، فيما أضافه الاول على باب النحو، والثاني على باب الصرف من زيادات كثيرة، وإيضاحات مستفيضة لدى غعادتها طبع كتاب "بحث المطالب" في مطلع القرن العشرين (1900)،
يوم كانت المدارس، على اختلاف أنواعها، "تعلّم اللغة في الكتب القديمة، كاأجروميّة، وابن عقيد، والأشموني، والصبّان، والحريري، ( جرجي زيدان – تاريخ آدابا للغة العربية، ج: 4 ص: 255).
ويوم كان في مصر ، وحده ن الشيخ محمد الدسوقي (1815 +) يحشّي بعض الكتب القديمة، ويعلّق عليها، وليس له في ذلك غير كتابين: "حاشية الدسوقي على مغني اللبيب" وهو "مغني اللبيب في كتب الأعاريب" لابن هشام، و"حاشية الدسوقي على التفتازاني" في المعاني والييان.
ثم هي التي بدأها، على التأليف في اللغة، الشيخ ناصيف اليازجي في "عقد الجمان"، و"أللامعة في شرح الجامعة"، و"الطراز المعلم"، و"مجمع البحرين، ثم استمر فيها: "ألشيخ أحمد فارس الشدياق في "الساق على الساق"، و"الجاسوس على القاموس"، و"سر الليال في القلب والإبدال"، و"جرجي زيدان في "ألفلسفة اللغوية"، والشيخ ظاهر خير الله في "المنهاج السوي في التخريج واللغوي"، و"اللمع النواجم في اللغة والمعاجم"، و"رسالة المفعلة"، و"رسالة جيّد"، والشيخ ابرهيم اليازجي في "نجعة الرائد، وشرعة الوارد ، في المترادف والمتوارد، و"أصل اللغات السامية"، و"أمالي لغوية"، و"اللغة والعصر"، و"لغة الجرائد" و"نقد لسان العرب"، و"أغلاط المولدين" و"ألمجاز" و"النبر"
والشيخ سعيد الشرتوني في "دقائق عربية"، و"نجدة البراع"، و"رسائل الانتقاد"،
والمعلم شاكر شقير في "أساليب العرب"،
ثم هي التي بدأها، في نشر المخطوطات القديمة والتعليق عليها،
الشيخ سعيد الشرتوني في "النوادر في اللغة وكتاب مسائيى" لأبي زيد الإنصاري،
وساتمر فيها الشيخ ابراهيم اليازجي في "تحفة المودود في المقصور والممدود" للإمام بن مالك، و"الغرائد الحسان"،
والشيخ عبد الله البستاني "في الاقتضاب في شرح أدب الكتاب"، ثم الأب لويس شيخو والأب صالحاني وغيرهما…
ثم هي التي بدأها، في تسهيل معاجم اللغة، المعلم بطرس البستاني في "محيط المحيط"، و"قطر المحيط"
وساتمر فيها الشيخ سعيد الشرتوني في "أقرب الموارد إلى فصح العربية والشوارد"،
والمعلم جرجس همام في "معجم الطالب"،
والأب لويس المعلوف في "المنجد"،
والمعلم جرجي عطيه في "المعتمد"،
والشيخ عبد الله البستاني في "البستان"، و"فاكهة البستان".
ثم هي التي بدأها، في توسيع مدارك الناس،
المعلم بطرس البستاني في "دائرة المعارف"،
واستمر فيها: سليم البستاني، وسليمان البستاني، والأب شيخو، وجرجي زيدان.
ولماذا كانت لنا أول حركة تعنى بطبع الكتاب، لنشره، ولتعميم الفائدة منه، وهي الحركة التي بدأها الرهبان الموارنة، يوم انشأوا، السنة 1610 مطبعة دير قزحيا في شمالي لبنان؟
ثم استمر فيها الرهبان الروم الملكيين الشويريين، فأنشأ الراهب عبد الله الزاخر مطبعة مار يوحنا الصابغ في الشوير، (1733)،
حتى انشئت مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأورثوذكس، في بيروت، (1848)، قبل أن تكون قد أنشئت اللمطبعة الأهلية الأولى، في مصر، على يد الانبا كيرلس الرابع، بطريرك الأقباط، في السنة 1860، ثم مطبعة وادي النيل (1866).
اما مطبعة بولاق التي كان قد أنشأها محمد علي في السنة 1821 فقد أقام عليها، من أجل أنه يستقيم فيها العمل، المعلم نقولا مسابكي الماروني اللبناني.
ظظظ
لذلك انصرف الأدباء اللبنانيون منذ البدء إلىالعناية بأسلوبهم الكتابي عناية جد ورصانة وذوق، كانت جليلة الفوائد، إلا إذا ثبت أن هذا العطاء المنهمر وهذا التعاقب الفذ على الأساليب الأدبية المنوعة إنما هو من فيض الذات ومن انبثاقات رواسب الحضارات المتراكمة في نفوسهم الممتدة اصولها إلىأعمق اصول الشعب، فنضجت نظرتهم إلى الحياة والجمال نضجًا كيّغ أساليب عيشهم وتعاملهم وتعبيرهم. حتى جاءت جميعًا يزاهيها التنوع ويؤصّلها الغنى ويتألق فيها الجمال ابتداء بالشيخ ناصيف اليازجي الذي تسلم لغة النثر في صدر الانبعاث مفككة التركيب ثقيلة الأداء مغمورة بالصناعة اللفظية التي كانت تضفي الغموض على أساليب الكتاب فأسلمها وقد بدأت تستحكم تراكيبها، ويرشق أداؤها وتنجلي ديباجتها وتغلب الصباحة إلى وجهها.
وابتداء بالمعلم بطرس البستاني الذي بسّط لغة الكتابة فقد لها ثوبًا على قدر المعاني وأطرح هنها كل فضفاض زائد،
إلى الشيخ ابراهيم اليازجي والشيخ سليمان البستاني اللذين رجعا في الأصالة الكتابية إلى ابن المقفع وابن عبد ربو وأبي الفرج الأصفهاني والجاحظ فانقاد لهما أسلوب راقي سلس هادئ النبرة محكم اللفظة والتركيب سديد الخطى إلى غاياته وأغراضه.
فإلى جبران خليل جبران الذي كتب النغم واللون بالحرف وصوّر الفكرة ونقل العقدة من الكلمة إلى الروح فاعتمد اللفظة النابضة حياة وأهمل اللفظة التي جمّدها الموت. وبعد بأسلوبه الكتابي عن كل أسلوب سابق. حتى قال قائل فيه" لو قام صبي من قريش وقرأ لجبران لما فهم عليه شيئًا".
فإلى عمر فاخوري وبطرس البستاني، وأمين نخله وميخائيل نعيمه وأحمد مكي وخليل سركيس وأترابهم الذين كل واحد منهم صنع نفسه وصاحب طريقة في التعبير متروكة كلها لحكم الزمن.
وقد أستعصى ان يكون أسلوب في الكتابة التي هي أشبه شيء بالعمل اليدوي الشاق (أمين نخلة)ز
عاشت بين أهلها وماتت عند جدران الأزهر قبل أن تطلع إلى فسيح الدنيا ومصاحبة الناس.
أما طريقة المنفلوطي في الكتابة التي تميزت "بالإفراط في استعمال المرادفات ومعاقبة الجمل على المعنى الواحد والإسهاب المديد التي تفيض معه الألفاظ كالوابل المنهمر" (بطرس البستاني).
وطريقة مصطفى صادق الرافعي وابراهيم المويلحي في التزويق والترفيع والحبك والرصف والنقل عن الرف بين الغبار بدل الغرف من القلب بين الأضالع فكلها طرق أدركها الموت قبل أن يدرك أصحابها.
تبقى طريقة طه حسين التي نبت لها مائة رأس ورأس، هنا وهنا وفي كل مكان والتي تورطت جميعها في التطويل والتكرار حتى كانها تسير بالقارئ سيرًا عاديًا في منبسط من الأرض فتسليه مرة وتضجره مرة". (بطرس البستاني) ويظل يصحبها على كل حال لانها لا تتعب ذهنًا ولا تكد في ذلك.
طريقة طه حسين هذه بنت أمتين الأصالة العربية المهلهلة والبيئة المصرية العريقة.
وبسبب هذا الأسلوب حدّث خليل ثابت (صاحب " المقطّم") قال:
"ألمصري محدث بارع. ينقل المخبر الصحافي المصري الخبر فيرويه عليك فتستطيبه وتطرب وإذ يحمله إليك مكتوبًا تكون قد ضاعت روعته بين القلم والورق.
وشاء الله أن يزف إلى مصر أديبها الأكبر مكفوف النظر فكانت الطريقة المحتومة عليه في الكتابة ان يحدّث هو وان يسجل الحديث سواه، قطابقت براعة الكاتب فيه براعة المحدث.
وكان أسلوب طه حسين الكتابي أسلوب الحديث.
ومن خصائص هذا الأسلوب أني يمضي فيه صاحبه عفو الخاطر الدافق سهلاً لين المراس مسرعًا مستمهلاً مستوقفًا مستفهمًا جازمًا ساخرًا جادًا قافزًا مستطردًا مرددًا معيدًا.
همه الأول أن يظل ظافرًا بانتباه القارئ فلا يدع أذنه تفرغ من نبرة الصوت وتسكاب الكلام ولو جرّ ذلك إلى تجمد المعنى في اضطراد اللفظ أو جرّ إلى تعمّد خلق المفاجآن.
ولا أدري أفي هذه الطريقة أم في مثلها قال آلان في كتابه "خواطر في الأدب" قوله المأثور:
"هناك عجز في التواصل يبدو كأنه تقصير في الإفهام وهو مرض يحمل صاحبه على الشك في انه قد فهم. ثم يحمله على أن يتأكد باستمرار من أنه قد فهم".
هذا القول وإعادة هذا الشرح وتكرار الشرح والترداد المتواصل بغية الإفهام إنما هو نوع من السبة المستمرة يرشق بها وجه الكاتيز
على أنه يبقى لأسلوب طه حسين ابتعاده عن جمود الأساليب العتيقة واقترابه من الحياة دون أن ينحرف إلى الركة والابتذال.
سيداتي سادتي،
قد يكون الأدب اللبناني أكثر الآداب العربية تنوعصا،
على أن عهد اللبنانيين بالعربية ليس بعيدًا.
فهو يرقى إلى الفتح العربي وهي لم تترسخ في جبالهم إلا مع المعنيين.
ومع ذلك يبقى الأدب اللبناني أكثر الأدابا لعربية انواعًا أدبية.
فقد نظم شعراؤهم في الملحميات والغنائيات والمثيليات ونظموا في الشعر القصصي والتاريخي والتعليمي ونظم بعضهم في الأحاجي والألغاز وسبك القصائد العواطل وعواطل العواطل والخيفاء والرقطاء والمعجمة والملمعة ما عجز في مثله الأقدمونز
وألف أدباؤهم في القواعد والأصول، في فقه اللغة وفلسفتها، في التاريخ والأخبار واليوميات،
وكتبوا في القصة والتمثيلية والمحاولات.
ووضعوا الدراسة الأدبية،
وأنشأوا في الترسل والشذور.
وكان منهم خطباء طارت لهم شهرة بعيدة.
وانكبوا وحدهم على كتابة المقال السياسي الذي دشن عهده الأول المعلم سليم البستاني في مجلة "الجنان" تحت عنوان دائم "جملة سياسية.
ونجحوا وحدهم في ادب المحاضرة.
وهو نوع ادبي جديد روجت له الجامعتان اليسوعية والاميركية في بيروت ورسخت فنه هذه الندوة اللبنانية.
ثم هم نقلوا إلى العربية وعنها. وانشأوا في كل لغات الأرض نثرًا وشعرًا.
حتى كان منهم شعراء وكتاب مجيدون في الفرنسية والإنكليزية والإسبانية.
وقد تميز الأدب اللبناني بالموضوعات ذات النفس الطويل وبالطتب الجامعة كـ"ألمحيط المحيط" و"أقرب الموارد" و"البستان" و"دائرة المعارف" و"الإلياذة" و"تاريخ الأدب العربي" و"ألروائع و"عيد الرياض".
ولم يكتب العمر الطويل إلى الجرائد والمجلات التي تعهدتها عزائم من لبنان كـ"الأهرام" و"لسان الحال" و"الهدى" و"المشرق" و"ألهلال"
وقام على خدمة الأدب اللبناني رجال دنيا ودين من كل ناحية وصوب.
فلم تمنع السياسة سليمان البستاني النائب والسفير والوزير أن يتوفر على لانظم والتأليف والتعريب.
ولا متعت إسبر شقير وشكيب إرسلان ورشيد نخله وأيوب تابت وموسى نمور وعبد الحليم حجّار وشبلا دموس عن المضي في طريق الكتابة والتأليف.
ولم يمنع الطب والهندسة والمحاماة شبلي الشميل وشاكر الخوري ويعقوب صروف وفارس نمر ويوسف أفتيموس وجرجس الصفا أن ينصرفوا إلى الإنشاء والتأليف.
ولا حالة الحبروية عند الدويهي وفرحات وعواد والدبس وأبي كرم والفغالي وديب، أو حالت المشيخة عند مصطفى الغلاييني ورائف فاخوري ورئشيد رضا، او حالت الرسالة الروحية عند جمهرة كبيرة من رجال الرهبنة والدين دون انكبابهم على الكتابة والتأليف ولا قطعت التسوية طريق الكتابة على وردة اليازيج، مي زيادة، عفيفة كرم، سلمى صايغ، جوليا دمشقية، أفلين بسترس.
كان الادب يمازج النفس اللبنانية وهو منها بمثابة الروح .
لكل من اللبنانيين ردة آلية ولو طالت الردة.
ويعزز هذا الظن تعاظم عدد الشعراء الشعبيين القوالين في كل قرية من قرى الجبل وفي بعض سواحله ومدائنه.
وقد بدا على الأدب اللبناني في معظمه وعلى اختلاف فنونه وأنواعه ميل إلى البوهيمية الأدبية كأن يتحلق اسكندر وسليم العازار وبشارة الخوري وطانيوس عبدو ورفاقهم حول طاولة وكأس في حانوت لحام.
ثم ينضح ادبهم بروح هذه الحلقة.
وأن يتحلق آخرون في دكان وراق او بيت أحدهم على كأس ودردشة وكلام طيّع.
ثم ينم ادبهم على كل ذلك.
ولعل أطيب ما في أدب الياس أبو شبكو ويوسف غصوب وأمين نخلة تلك البوهيمية التي يندر أن تجتمع هي هي في نتاج متفلت ثائر ومتبحر ذاهل ومتشوف أنيق.
وهذه البوهيمية في ادب اللبنانيين إما تكون الحرية بالذات أو تكون الطريق إلى الحرية أو تكون من نتائجها.
إذ الأدب اللبناني تعبير عن الحرية اولاً وقد حاولنا أن نقيم الدليل غير مرة من فوق هذا المنبر على أن اللبناني رجل حر يكافح حتى الموت من أجل حريته.
فيصعب أن يكون ادب اللبنانيين وهو زبدة زبدتهم غير أدب الحرية.
ومن أبرز الأدلة على ذلك ميل الأدباء اللبنانيين في أول نهضتهم إلى المفكرين الذين وجدوا فيهم تطلعًا إلى التجدد ودعوة إلى التحرير وسعيًا وراء الحرية كفولتير وروسو ومونتيسكيو وداروين.
ثم ميلهم غلى الثورة الفرنسية والتعلم بتعاليمها والتعلق باهدابها.
وقد كان أول من حاول تاريخها في هذا الشرق جماعة من لبنان كالأمير حيدر شهاب (1761 – 1835) ونوفل نعمة الله نوفل والمطران يوسف الدبس.
وأول المتأثرين بها سليم البستاني وأحمد فارس الشدياق ود. شاكر الخوري ود. شبلي الشميّل. وأديب اسحق وفرح أنطون وأمين البستاني وأمين الريحاني والشيخ رشيد رضا وجبران خليل جبران ود. أيوب تابت والشيخ مصطفى الغلاييني وخليل مطران وبشارة الخوري والياس أبو شبكة على ما أثبت الأستاذ رئيف خوري في كتابه "الفكر العربي الحديث".
ومن الادلة على حرية اللبنانيين نفرتهم من الكبت والاضطهاد ونزولهم على الرحابة وإن نسبية كلما أوجسوا خيفة على أقلامهم.
من ذلك نزول شكري غانم وخير الله خيرالله وصحبهما إلى باريس، ونزول سليم وبشارة تقلا ويعقوب صروف وجرجي زيدان وسبلي الشميل وخليل تابت وخليل مطران وصحبهم على مصر ونزول تلك الكوكبات اللبنانية الحلوة على مختلف المهاجر.
ونزول أحمد فارس الشدياق على لاقسطنيطينية بالذات ليكون قريبًا من بيت الداء فيعرف كيف يتقيه.
ومن ذلك حمل اعناقهم إلى حبال المشانق.
وإنهم لا يابهون بالضطهادات والسجون فيتصدوا لها أباة ويدخلوا فيها اعزة وفد دلت على دروبهم في معارج الحرية معالم كثيرة الوضوح.
هنا "ذكرى وعبرة" لسليمان البستاني
هنا "نيرون" لخليل مطران.
وهنا معظم الذي جرى على قلم جبران واسحق والريحاني والخازن ورضا والفاخوري وأبي شبكة وصلاح لبكي لألا نتجاوز طيب ذكر الغائبين.
وفي اساليب اللبنانيين الأدبية ما ينم على أثر الحرية الظافرة كخروجهم على سياق الأخطل في الكتابة واعتفائهم من لوازم التركيب المقيد وأطراح التسجيع والقوالب الجاهزة وإشاعة الصباحة والزفزفة غي الكلام والقفز إلى مختلف الأنواع الادبية، سواء أتطرق إليها العرب ام لم يتطرقوا إليها من قبل.
ثم القفز في حدود النوع الأدبي الواحد من الرومنطيفية إلى البرنساية إلى الكلاسيكية المستأخرة فإلى الرمزية قفزًا عجيبًا. لا هو يضرهم أو يضر قراءهم ولا هم على وجوههم يهيمون.
لعل هذه الحرية المحيية من نتائج أصالة اللبنانيين في عالم الحضارة وقد تعاقبت عليهم على التوال حضارات كالفينيقية واليونانية واللاتينية والسريانية والعربية والأأوربية وكانت كل منها في عصرها خلاصة الفكر البشري. او هي من نتائج شيوع الحضارة في مختلف اوساطهم شيوعًا جعل من حضارة اللبنانيين حضارة شعب لا حضارة طبقات او أفراد فبرزت هكذا.
قيمة الحرية الفردية التي تفشت في جميع أعمالهم وتصرفاتهم وأدائهم وهي نتيجة نلك الثقافة المركبة التي هي بدورها نتيجة تلك الحضارات المتعاقبة عليهم والتي هي أبعد ما تكون عن البساطة والتسطّح والبدائية تفرض العمل الطويل والاختبار الواسع.
فلا تصفق للبديهيات ولا تعجب بالابتدائبات ولا تثور حماسة لدى ما تتحمس له الشعوب الفطرية في جميع الفنون ولا تقف في طريق نموها صعوبات وعقبات على ما يقول الأستاذ فؤاد افرام البستاني في أبحاثه.
سيداتي سادتي،
كان بالإمكان – والحديث بيننا خواطر – ان نقف عند هذا الحد من الكلام فلا نستطرد فيه إلى نتائج. نختم على هذه الملاحظات الخاطفة برأي ولكن ماذا يمنع أن نعقد الكلام على خلاصة:
ما دامت الحضارة اللبنانية عصارة حضارات كل منها في عصرها خلاصة الفكر البشري.
وما دامت حضارة اللبنانيين حضارة شعب لا حضارة طبقات وأفراد
وثقافة اللبنانيين تلك الثقافة المركبة ووتراثًا إنسانيًا كثيفًا.
ولغة اللبنانيين تلك هي أقرب في الكتابة إلى الحاجة وأدل على الغرض وأسلس في الأداء وأرسخ في الجمال.
وما دام تطلعهم إلى الدنيا من فوق هذه الجبال، ودامت لهم قدم في الأزرق المتوسط يجرونها عليه كلما هتف في الصدر هاتف إلى الندوات البعيدة والدنياوات العنيقة الجديدة.
وما دام العناء والغنشاد على الحب والجمال حاجة ملحة في نفوسهم.
إن ماتت هي او ماتت الحسننة على مناقير اللبنانيين مات الحسن أسًى على هذه الشطآن.
وما دامت الحرية مطلبهم الأول، فلا تقوم على أرضهم سيادة لفرد ولا سيطرة لمذهب ولا تحكم لتوجيه.
فما دام كل ذلك قائمًا فستظل أرض لبنان أرضنا المنورة الحلوة ملتقى الحاضر بماضيه مصب الغرب في الشرق، مهد الانتفاضات والالتماعات الفذة، مطلع الفيض بلا عناء ينهد منها البساتنة واليازجيون الصبّاح وطربيه، جبران ومالك، شربل ورفقا، كما ينهد عبير الورد من الورد لا جهد ولا منة.
ثم لا ينفرد ناهد عن رهيله.
فتتحلف في كل فن أسرة الفن عليه ويمشي الجبل الملهم. كوكبًا في أثر كوكبة.
إذا مات منهم سيد قام سيد
تهني على الناس هناء حتى لا ينقطع المعين.
وفي الجبل الماشي جوقات تناشد الله وتنشد اللهم تباركت تباركت تباركت اعطنا المعرفة فنحيا.